في تمام الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الأحد 19 تشرين الأول 2025، شارك غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، في القداس الحبري الذي احتفل به قداسة البابا لاون الرابع عشر، وخلاله أعلن قداسةَ سبعة قديسين جدد، وفي مقدّمتهم المطران الشهيد اغناطيوس مالويان، أسقف ماردين للأرمن الكاثوليك، وذلك في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان.
عاون قداستَه صاحبُ الغبطة روفائيل بيدروس الحادي والعشرون ميناسيان كاثوليكوس بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك، وشارك في هذا الإحتفال الروحي المهيب أيضاً صاحب الغبطة الكردينال مار بشارة بطرس الراعي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، وعدد من الكرادلة والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات من مختلف الكنائس والقارّات والبلدان، بحضور ومشاركة الآلاف من المؤمنين الذين ضاقت بهم ساحة القديس بطرس والساحات المحيطة، من بينهم وفد كبير من الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية الشقيقة من لبنان وأرمينيا وبلدان أخرى. وقد رافق غبطةَ أبينا البطريرك للمشاركة في هذا الإحتفال صاحبُ السيادة مار فلابيانوس رامي قبلان، والمونسنيور حبيب مراد.
تقدّم الحضور فخامة العماد جوزاف عون رئيس الجمهورية اللبنانية، واللبنانية الأولى السيّدة نعمت عون، والرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريللا، ورسميون من بلدان عدّة، ومن بينهم عدد من الوزراء والنواب من لبنان، فضلاً عن المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء حسن شقير.
في بداية القداس، تلا صاحب النيافة الكردينال مارسيللو سيميرارو رئيس مجمع دعاوى القديسين، سيرة حياة المطران الشهيد اغناطيوس مالويان، والستّة الآخرين: بيتر تو روت، فينشينزا ماريا بولوني، ماريا كارمن رينديلِس مارتينيز، ماريا ترونكاتي، خوسيه غريغوريو هيرنانديز سيسنيروس، وبارتولو لونغو، ملتمساً من قداسة البابا إعلان قداستهم.
ثمّ أعلن قداسة البابا لاون الرابع عشر قداسةَ المطران مالويان والستّة الآخرين، ورفعهم على المذابج في الكنيسة الجامعة، وسط البهجة والسرور والتصفيق الحارّ.
وبعد الإنجيل المقدس، ألقى قداسة البابا موعظة روحية منطلقاً من سؤال الإنجيل: "متى جاء ابن الإنسان، أتُرى يجد الإيمان على الأرض؟"، مشدّداً على أنّ "الإيمان هو أثمن ما يراه الرب في الإنسان، لأنّه الرباط الحيّ الذي يوحّد السماء بالأرض. القديسون والقديسات الجدد هم شهودٌ لمعنى هذا الإيمان الذي لا يَخبو وسط ظلمات العالم، بل يضيء كمصابيح تنشر نور المسيح في التاريخ. إنّ هذا السؤال يكشف لنا ما هو الأثمن في نظر الربّ: الإيمان، أي رباط المحبّة بين الله والإنسان. واليوم، يقف أمامنا سبعة شهود، هم القديسون والقديسات الجدد الذين، بنعمة الله، أبقوا مصباح الإيمان مضيئاً، بل أصبحوا هم أنفسهم مصابيح قادرة على أن تنشر نور المسيح في العالم. وبالنسبة إلى الخيرات المادّية والثقافية، والعلمية والفنّية، فإنّ الإيمان يسمو عليها، لا لأنّ تلك الخيرات تُحتقَر، بل لأنّها بدون الإيمان تفقد معناها. إنّ العلاقة مع الله هي الأهمّ، لأنّه هو الذي أوجد من العدم كلّ الأشياء في بدء الزمان، وهو الذي يخلّص من العدم كلّ ما ينتهي في الزمان. إنّ أرضاً بلا إيمان ستكون مأهولة بأبناء يعيشون بلا أب، أي بمخلوقات بلا خلاص".
ونوّه قداسته بأنّه "إن اختفى الإيمان من العالم، فماذا سيحدث؟ السماء والأرض ستبقيان كما هما، لكن لن يبقى في قلوبنا رجاء، سيهزم الموتُ حرّيةَ الجميع؛ وسيهوِي توقُنا إلى الحياة في العدم. بدون الإيمان بالله، لا يمكننا أن نرجو الخلاص. إنّ سؤال يسوع يقلقنا، نعم، ولكن فقط إذا نسينا أنّه هو نفسه الذي يوجّهه. فكلمات الربّ تبقى دائماً إنجيلاً، أي إعلان الخلاص بفرح. وهذا الخلاص هو عطيّة الحياة الأبدية التي ننالها من الآب، بالإبن، وبقوّة الروح القدس. فالربّ يسوع يتحدّث إلى تلاميذه عن وجوب المُداومة على الصلاة دون ملل، فكما أنّنا لا نتعب من التنفُّس، فلا نتعبَنَّ هكذا أيضاً من الصلاة. وكما يعضد التنفُّس حياةَ الجسد، كذلك تعضد الصلاة حياة النفس. الإيمان في الواقع يتمُّ التعبير عنه بالصلاة، والصلاة الحقيقية تحيا بالإيمان".
وتناول قداسته المَثَل الذي أعطاه يسوع عن الرباط بين الإيمان والصلاة، إذ يقول: "قاضٍ يصمّ أذنيه عن طلبات أرملةٍ تلحّ عليه، ولكنّ مثابرتها تدفعه في النهاية إلى العمل. للوهلة الأولى، تصبح هذه المثابرة مثالاً جميلاً لنا عن الرجاء، لا سيّما في زمن التجربة والضيق. لكنّ مثابرة المرأة وسلوك القاضي، الذي يتصرّف رغم إرادته، يهيّئان لسؤالٍ استفزازيٍّ من يسوع: أَفَما يُنصِفُ اللهُ، الآبُ الصالح، مُختاريهِ الذينَ ينادونَه نهاراً وليلًا؟ لنجعل صدى هذه الكلمات يتردّد في ضميرنا: إنّ الربّ يسوع يسألنا إن كنّا نؤمن بأنّ الله قاضٍ عادل تجاه الجميع، وهو يسألنا إن كنّا نؤمن بأنّ الآب يريد دوماً خيرنا وخلاص كلّ إنسان. في هذا السياق، هناك تجربتان تمتحنان إيماننا: الأولى تنبع من فضيحة الشرّ، وتجعلنا نظنّ أنّ الله لا يسمع صراخ المظلومين ولا يرحم ألم البريء. أمّا الثانية، فهي تجربة الإدّعاء بأنّ على الله أن يتصرّف كما نريد نحن، فتصير الصلاة حينها أمراً موجَّهاً إلى الله، وكأنّنا نعلّمه كيف يكون عادلاً وفعّالاً".
وأكّد قداسته على أنّه "من هاتين التجربتين يحرّرنا يسوع، الشاهد الكامل للثقة البنوية. فهو البريء الذي، لا سيّما في آلامه، صلّى قائلاً: يا أبتِ، لتكن مشيئتك. إنّها الكلمات عينها التي سلّمها لنا المعلّم في صلاة "الأبانا". ومهما حدث، يسلِّم يسوع نفسه كابنٍ للآب. ولهذا نحن، كإخوةٍ وأخواتٍ باسمه، نعلن: إنّه لحقٌّ وعدل، واجبٌ وخلاصيّ، أن نشكرك في كلّ زمانٍ وفي كلّ مكان، أيّها الربّ، الآب القدّوس، الإله القدير الأزلي، بالمسيح ربّنا. تذكِّرنا صلاة الكنيسة بأنّ الله يقيم العدل تجاه الجميع، إذ يهب حياته من أجل الجميع. وهكذا، عندما نصرخ إلى الربّ: أين أنت؟، تتحوّل هذه الصرخة إلى صلاة، فنعترف عندها أنّ الله هو موجود، حيث يتألّم البريء. إنّ صليب المسيح يكشف لنا عدالة الله، وعدالة الله هي المغفرة: فهو يرى الشرّ ويفديه، إذ يأخذه على عاتقه. عندما يصلبنا الألم والعنف، الكراهية والحرب، يكون المسيح هناك، على الصليب من أجلنا ومعنا. لا يوجد بكاء لا يعزّيه الله، ولا توجد دمعة بعيدة عن قلبه. إن الربّ يصغي إلينا، ويعانقنا كما نحن، لكي يحوّلنا إلى ما هو عليه. أمّا الذي يرفض رحمة الله، فيبقى غير قادر على الرحمة تجاه القريب، والذي لا يقبل السلام كعطيّة، لن يستطيع أن يعطي السلام".
ولفت قداسته إلى أنّنا "نفهم أنّ أسئلة يسوع هي دعوة قويّة إلى الرجاء والعمل: متى جاء ابن الإنسان، هل يجد الإيمان في عناية الله؟ إنّه هذا الإيمان بالذات الذي يعضد التزامنا من أجل العدالة، لأنّنا نؤمن بأنّ الله يخلّص العالم بالمحبّة، ويحرِّرنا من روح الإستسلام والقدرية. فلنسأل أنفسنا إذن: عندما نسمع نداء من هو في ضيق، هل نكون شهوداً لمحبّة الآب، كما كان المسيح تجاه الجميع؟ هو الوديع الذي يدعو المتكبّرين إلى الإرتداد، هو البارّ الذي يجعلنا أبراراً، كما يشهد بذلك القديسون الجدد اليوم: فهم ليسوا أبطالاً أو مدافعين عن مُثُلٍ بشرية، بل رجالاً ونساءً حقيقيين".
وختم قداسته موعظته بالقول: "إنّ أصدقاء المسيح الأمناء هؤلاء هم شهداء من أجل إيمانهم، مثل الأسقف اغناطيوس شكر الله مالويان، وأستاذ التعليم المسيحي بيتر تو روت، إنّهم مبشِّرون ومرسَلات، مثل الأخت ماريا ترونكاتي، ومؤسِّسات مُلهَمات، مثل الأخت فينتشنزا ماريا بولوني والأخت كارمن رينديلِس مارتينِس، وبقلوبهم المتّقدة بالغيرة والتقوى، صاروا محسنين للبشرية، مثل بارتولو لونغو وخوسيه غريغوريو هيرنانديز سيسنيروس. لتساعدنا شفاعتهم في المِحَن، وليلهمنا مثالهم في دعوتنا المشترَكة إلى القداسة. وفيما نحن نحجُّ نحو هذه الغاية، لنُصَلِّ بلا ملل، ثابتين في ما تعلّمناه وما نؤمن به إيماناً راسخاً. وهكذا، يعضد الإيمان على الأرض رجاء السماء".
في نهاية القداس الإلهي، وقبل تلاوة صلاة التبشير الملائكي، وجّه قداسة البابا كلمة قال فيها: "أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أتوجّه بتحيّة من القلب إليكم جميعاً، أنتم الذين شاركتم في هذا الإحتفال الذي كان عيداً عظيماً للقداسة! أشكر البطاركة والكرادلة والأساقفة الحاضرين، كما أعبّر عن امتناني لرئيس الجمهورية الإيطالية ورئيس جمهورية لبنان وللوفود الرسمية، ولا سيّما للوفدين اللذين قَدِما من أرمينيا وفنزويلا. أرحّب بفرح ببنات المؤسِّسات اللواتي أُعلِنت قداستهنّ اليوم، وبالجماعات والجمعيات المختلفة المستوحاة من مواهب القداسة التي تركها القديسون الجدد. شكراً للجميع على مشاركتكم المفعَمة بالإيمان والتقوى! كما أوجّه أيضاً تحيّتي إلى سائر الحجّاج الحاضرين، ولا سيّما إلى "أخوية سيّد العجائب" التي أحيت مسيرتها الإحتفالية التقليدية السنوية".
وأشار قداسته إلى أنّ "اليوم يصادف اليوم الإرسالي العالمي. الكنيسة هي مُرسَلة بأسرها، لكنّنا نصلّي اليوم بنوعٍ خاصّ من أجل الرجال والنساء الذين تركوا كلّ شيء ليحملوا الإنجيل إلى الذين لا يعرفونه بعد. إنّهم مرسَلو رجاء بين الشعوب. ليباركهم الربّ".
وتوقّف قداسته عند "الأخبار المؤلمة التي تصلنا للأسف من ميانمار، وهي تتحدّث عن استمرار الإشتباكات المسلَّحة والغارات الجوّية، حتّى ضدّ الأشخاص والبُنى التحتيّة المدنيّة. أنا قريب من جميع الذين يتألّمون بسبب العنف وانعدام الأمن وكثرة المعاناة. وأجدّد ندائي الملحّ إلى وقفٍ فوريّ وفعّال لإطلاق النار. فلتفسح أدوات الحرب المجال لأدوات السلام، من خلال حوار شامل وبنّاء! نُوكِل إلى شفاعة العذراء مريم والقديسين الجدد صلاتَنا الدائمة من أجل السلام، في الأرض المقدسة، وفي أوكرانيا، وفي سائر مناطق الحروب. ليمنح الله جميع المسؤولين الحكمة والمثابرة، للسير قُدُماً في السعي إلى سلامٍ عادلٍ ودائم".
وبعد القداس، قدّم غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث التهاني القلبية إلى قداسة البابا لاون الرابع عشر بهذه المناسبة المبارَكة، ملتمساً بركته لكنيستنا السريانية الكاثوليكية ولشرقنا وللعالم.
كما هنّأ غبطتُه أخاه صاحب الغبطة البطريرك روفائيل بيدروس ميناسيان بمناسبة إعلان قداسة المطران الشهيد اغناطيوس مالويان، مهنّئاً من خلاله الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية الشقيقة، سينودساً وإكليروساً ومؤمنين، بل الكنائس في الشرق بأسرها، سائلاً الله أن يمنّ على كنائسنا وبلداننا المشرقية، بشفاعة هذا القديس الجديد، بعطيّة السلام والأمان، وبمتابعة حمل راية البشارة بالإنجيل، بالرغم من الظروف القاسية والتحدّيات والمِحَن والصعوبات.
|