في تمام الساعة العاشرة من صباح يوم الأحد ١٨ أيّار ٢٠٢٥، شارك غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، في قداس تنصيب وتولية قداسة البابا الجديد لاون الرابع عشر في بداية حبريته، وذلك في ساحة مار بطرس – الفاتيكان.
شارك في هذا القداس أيضاً أصحاب الغبطة بطاركة ورؤساء الكنائس الكاثوليكية الشرقية: ابراهيم اسحق سدراك بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك، يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك، مار لويس روفائيل الأول ساكو بطريرك الكلدان في العراق والعالم، روفائيل بيدروس الحادي والعشرون ميناسيان كاثوليكوس بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك، الكردينال مار باسيليوس اقليميس كاثوليكوس الكنيسة السريانية الكاثوليكية الملنكارية في الهند، سفياتوسلاف شفشوك رئيس الأساقفة الأعلى للكنيسة الأوكرانية الملكية الكاثوليكية، ورافاييل ثاتّيل رئيس الأساقفة الأعلى للكنيسة الملبارية الكاثوليكية في الهند.
وشارك أيضاً عدد كبير من أصحاب النيافة الكرادلة وأصحاب السيادة المطارنة والآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات والمكرَّسين من محتلف الكنائس، ومئات الآلاف من المؤمنين غصّت بهم ساحة مار بطرس والساحات المحيطة بها على رحبها، وهم قادمون من كنائس ودول ومناطق شتّى حول العالم.
وقد رافق غبطةَ أبينا البطريرك للمشاركة في هذا القداس صاحبُ السيادة مار فلابيانوس رامي قبلان، والمونسنيور حبيب مراد.
كما شارك عدد من البطاركة والأساقفة ممثّلين الكنائس الأرثوذكسية، ورؤساء جمهوريات وحكومات من مختلف دول العالم.
قبل بدء القداس، توجّه قداسة البابا وغبطة أبينا البطريرك وأصحاب الغبطة البطاركة إلى أمام قبر القديس بطرس تحت المذبح الرئيسي لبازيليك مار بطرس، حيث رفع قداسته الصلاة إلى الله، في لحظة خشوعية مؤثّرة، طالباً شفاعة هامة الرسل بطرس، من أجل أن بيارك الرب حبريته بفيض نِعَمِه وبحسب قلبه القدوس.
وبعد تلاوة الإنجيل المقدس، تسلّم قداسة البابا الجديد لاون الرابع عشر الباليوم والخاتم البابوي من الكرادلة علامةً على بدء حبريته، وسط فرح روحي غامر.
بعدئذٍ ألقى قداسة البابا موعظة روحية حيّا في بدايتها جميع المشاركين "من أعماق القلب، ممتلئاً عرفاناً وشكراً، في مستهلّ الخدمة التي أُوكِلَت إليّ. لقد كتب القديس أوغسطينوس يقول: "لقد خلقتَنا لكَ، يا رب، وقلبنا لن يهدأ حتّى يرتاح فيك". لقد عشنا في الأيّام الأخيرة زمناً أليماً، إنّ وفاة البابا فرنسيس قد ملأت قلوبنا بالحزن، وفي تلك الساعات العصيبة شعرنا، كما يقول الإنجيل، أنّنا "كغنمٍ لا راعي لها". لكن، في يوم الفصح، نلنا بركته الأخيرة، وفي نور القيامة واجهنا تلك اللحظات بيقينٍ راسخ بأنّ الرب لا يترك شعبه أبداً، بل يجمعه حين يتفرّق، ويحفظه كما يحفظ الراعي قطيعه. وفي روح الإيمان هذا، اجتمع مجمع الكرادلة في الكونكلاف، وإذ جئنا من دروب مختلفة، وضعنا بين يدي الله رغبتنا في انتخاب خليفةٍ جديد لبطرس، أسقف روما، راعٍ قادر على أن يحفظ الإرث الثمين للإيمان المسيحي، وفي الوقت عينه، أن يرفع نظره إلى البعيد، ليواجه تساؤلات هذا الزمن، قلقه وتحدّياته. وبفضل صلواتكم، اختبرنا عمل الروح القدس، ذاك الذي يعرف كيف يوحّد الآلات المتنوّعة في سمفونية واحدة، ويحرّك أوتار قلوبنا بنغمة واحدة. لقد وقع عليّ الاختيار بدون استحقاق، وبخشوعٍ ورعدة آتي إليكم كأخٍ يريد أن يكون خادماً لإيمانكم وفرحكم، ويسير معكم في درب محبّة الله، الذي يريدنا جميعاً متّحدين في عائلة واحدة".
وأكّد قداسته أنّ "المحبّة والوحدة هما البُعدان للرسالة التي أوكلها يسوع لبطرس. وهذا ما يرويه لنا نصّ الإنجيل الذي يأخذنا إلى ضفاف بحيرة طبريّة، تلك التي بدأ عندها يسوع رسالته التي نالها من الآب: أن "يصطاد" البشرية لينتشلها من مياه الشرّ والموت. فعلى شاطئ تلك البحيرة، دعا بطرس وسائر التلاميذ الأوائل لكي يكونوا على مثاله "صيّادي بشر". والآن، بعد القيامة، يقع على عاتقهم أن يواصلوا هذه الرسالة، أن يلقوا الشباك دائماً ومجدّداً لكي يغمروا مياه العالم برجاء الإنجيل، ويُبحروا في بحر الحياة لكي يجد الجميع ذواتهم في حضن الله".
وأردف قداسته: "كيف لبطرس أن يواصل هذه المهمّة؟ يخبرنا الإنجيل أنّ الأمر ممكن فقط لأنّه اختبر في حياته محبّة الله اللامحدودة وغير المشروطة، حتّى في لحظات السقوط والإنكار. ولهذا السبب، عندما يتوجّه يسوع إلى بطرس، يشير إلى محبّة الله لنا، إلى تقدمة ذاته بدون تحفُّظ وحسابات، بخلاف بطرس الذي يشير في جوابه إلى محبّة الصداقة المتبادلة بيننا نحن البشر. وعندما سأل يسوع بطرس: "يا سمعان بن يونا، أتحبّني"، إنّما يشير إلى محبّة الآب. كأنّما يقول له: لا يمكنكَ أن ترعى خرافي إلا إذا اختبرتَ هذه المحبّة الإلهية التي لا تتغيّر أبداً، فوحدها محبّة الآب تستطيع أن تجعلكَ تحبّ إخوتكَ بذلك "الإضافي"، أي بأن تبذل حياتكَ من أجلهم".
ولفت قداسته إلى أنّه "أُوكِلَ إلى بطرس واجب "أن يحبّ أكثر"، وأن يبذل حياته من أجل القطيع. إنَّ خدمة بطرس مطبوعة بهذا الحبّ الخالي من الأنانيّة، لأنّ كنيسة روما ترأس في المحبّة، وسلطتها الحقيقية هي محبّة المسيح. ليست مهمّتنا أن نأسر الآخرين بالغلبة أو بالدعاية الدينية أو بأساليب السلطة، بل أن نحبّ دائماً وفقط على مثال يسوع. فهو، كما يعلن بطرس الرسول، الحجر الذي رذلتموه أيّها البنّاؤون، فصار "رأس الزاوية". وإن كان الحجر هو المسيح، فعلى بطرس أن يرعى القطيع دون أن يرضخ أبداً لتجربة أن يكون زعيماً منفرداً، أو رئيساً متعالياً على الآخرين، يسيطر على الذين أُوكِلوا إليه. بل على العكس، يُطلَب منه أن يخدم إيمان إخوته، ويسير معهم، لأنّنا جميعاً "أحجار حيّة"، دُعِينا من خلال المعمودية لكي نُشيِّد بيت الله في شركة أخوية، في انسجام الروح، وفي تعايُش الاختلافات، كما يؤكِّد القديس أوغسطينوس: إنَّ الكنيسة تتكوّن من جميع الذين يعيشون في وفاق مع إخوتهم ويحبّون القريب".
ونوّه قداسته بأنّ "ما أودّ أن يكون أول رغبة عظيمة لنا جميعاً: كنيسة متّحدة، علامة للوحدة والشركة، تصبح خميرة في عالم متصالح. في زمننا هذا، لا نزال نرى الكثير من الانقسام، والكثير من الجراح الناجمة عن الحقد والعنف والأحكام المسبقة، وعن الخوف من المختلف، وعن نمط اقتصادي يستهلك موارد الأرض ويقصي الفقراء. ونحن نريد أن نكون في هذا العجين، خميرة صغيرة للوحدة والشركة والأخوّة. نريد أن نقول للعالم، بتواضع وفرح: انظروا إلى المسيح! اقتربوا منه! اقبلوا كلمته التي تنير وتُعزّي! أنصتوا إلى نداء محبّته لكي نصبح عائلته الواحدة: ففي المسيح الواحد نصبح واحداً. وهذه هي الدرب التي علينا أن نسلكها معاً، فيما بيننا، وإنّما أيضاً مع الكنائس المسيحية الشقيقة، ومع الذين يسيرون في دروب دينية أخرى، ومع كلّ من يحمل في قلبه قلق البحث عن الله، ومع جميع ذوي الإرادة الصالحة، لكي نبني عالماً جديداً يسود فيه السلام. هذا هو الروح الرسولي الذي يجب أن يحرِّكنا، دون أن ننغلق في مجموعاتنا الصغيرة، ولا أن نشعر بأنّنا أفضل من الآخرين. نحن مدعوون كي نقدّم محبّة الله للجميع، حتّى تتحقّق تلك الوحدة التي لا تزيل الفوارق، بل تحتضن تاريخ كلّ إنسان، وثقافة كلّ شعب، وتنوُّعه الديني والاجتماعي".
وختم قداسته موعظته بالقول: "هذه هي ساعة المحبّة! إنَّ محبّة الله التي تجعلنا إخوة هي قلب الإنجيل، ومع سلفي الأسبق البابا لاون الثالث عشر يمكننا اليوم أن نسأل أنفسنا: "ألا تنتهي فوراً جميع الخلافات، ويعود السلام، لو ساد هذا المبدأ في العالم؟". لنَبْنِ، بنور الروح القدس وقوّته، كنيسة قائمة على محبّة الله، وعلامة للوحدة، كنيسة مرسَلة، تفتح ذراعيها للعالم، وتعلن الكلمة، وتصغي لنداءات التاريخ، وتصبح خميرة انسجام للبشرية. معاً، كشعب واحد، وكإخوة، لنسر نحو الله، ولنحبّ بعضنا بعضاً".
وفي نهاية القداس، وقبل تلاوة صلاة "إفرحي يا ملكة السماء"، ألقى قداسة البابا لاون الرابع عشر كلمة وجّه فيها "تحيّتي وشكري إليكم جميعاً، يا سكّان روما، ويا أيّها المؤمنون القادمون من شتّى أنحاء العالم، الذين أردتم أن تشاركونا في هذا الحدث! وأعبّر بشكلٍ خاصّ عن امتناني للوفود الرسمية القادمة من العديد من الدول، وكذلك لممثّلي الكنائس والجماعات الكنسيّة وسائر الديانات. أوجّه تحيّة حارّة إلى آلاف الحُجّاج القادمين من مختلف القارّات بمناسبة يوبيل الأخويّات. أشكركم لأنّكم تُبْقون حيّاً هذا الإرث العظيم للتقوى الشعبية".
وأشار قداسته إلى أنّه "خلال القداس، شعرتُ بقوّة بالحضور الروحي للبابا فرنسيس، الذي يرافقنا من السماء. وفي هذا البُعد لشركة القديسين، أُذكِّر أنّه بالأمس، في مدينة شامبيري بفرنسا، تمَّ إعلان تطويب الكاهن كاميل كوستا دو بوبورغار، الذي عاش بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكان شاهد محبّة رعويّة عظيمة. وفي فرح الإيمان والشركة، لا يمكننا أن ننسى إخوتنا وأخواتنا الذين يتألّمون من ويلات الحروب. ففي غزّة، يتضوّر الأطفال والعائلات والمسنّون الذين نجوا من الموت جوعاً. وفي ميانمار، هناك موجة جديدة من الأعمال العدائية أودت بحياة شبّان أبرياء. وأوكرانيا المعذَّبة لا تزال تنتظر مفاوضات تفضي إلى سلام عادل ودائم".
واختتم قداسته كلمته قائلاً: "لذلك، وبينما نُوكِل إلى مريم خدمة أسقف روما، راعي الكنيسة الجامعة، نتطلّع إليها من "سفينة بطرس"، هي نجمة البحر، وأمّ المشورة الصالحة، كعلامة رجاء. فلتشفع لنا عند الله، فننال عطية السلام، والمعونة والعزاء للمتألّمين، ونحظى جميعاً بنعمة أن نكون شهوداً للرب يسوع القائم من بين الأموات".
وقد جدّد غبطة أبينا البطريرك التهنئة لقداسة البابا لاون الرابع عشر بمناسبة انتخابه وبدء حبريّته، باسم الكنيسة السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، سينودساً وإكليروساً ومؤمنين في كلّ مكان، سائلاً الله أن يعضده بقوّة روحه القدوس ويقوّيه ليؤدّي خدمته في رعاية الكنيسة الجامعة في هذه الظروف العصيبة التي يتخبّط بها عالمنا اليوم، فتؤتي الثمار اليانعة على جميع الأصعدة، لخير الكنيسة وخلاص النفوس.
شكر قداسةُ البابا لغبطة أبينا البطريرك محبّته وتهنئته، داعياً له بفيض النِّعَم والبركات في رعاية الكنيسة السريانية الكاثوليكية، ومانحاً أبناء الكنيسة بركته الرسولية عربون محبّته الأبوية.
|