ننشر فيما يلي النصّ الكامل للموعظة التأبينية التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، في رتبة جنّاز ودفن المثلَّث الرحمات المطران مار أثناسيوس متّي متّوكة رئيس الأساقفة السابق لأبرشية بغداد، وذلك مساء يوم الخميس 27 آذار 2025، في كنيسة مار كوركيس، برطلّة - سهل نينوى، العراق
كلمة غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان
بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي
في تأبين
المثلَّث الرحمات المطران مار أثناسيوس متّي متّوكة
رئيس الأساقفة السابق لأبرشية بغداد للسريان الكاثوليك
كنيسة مار كوركيس، برطلّة، العراق، الخميس 27 آذار 2025
أصحاب السيادة الإخوة الأحبار الأجلاء الجزيلي الاحترام
الآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل
أصحاب المقامات المدنية والعسكرية
أيّها الأحبّاء المبارَكون بالرب
"كلمتك سراجٌ لخطاي ونورٌ لسبيلي" (مزمور 118: 105)
هذه الآية اتّخذها المثلَّث الرحمات المطران مار أثناسيوس متّي متّوكة شعاراً له، ونحن نجتمع اليوم لوداعه الأخير، بالأسى، ولكن أيضاً بصلاة الرجاء، وقد حمل هذا الشعار معه منذ رسامته أسقفاً في الثامن من كانون الأول عام 1979، وظلّ أميناً له زهاء خمسٍ وأربعين سنةً وثلاثة أشهر ونيّف.
نعم، أيّها الأحبّاء، إنّ عذوبة كلمة الله في فم المرتِّل الإلهي داود، كاتب سفر المزامير، لا تعني مجرَّد لذَّة فكرية، إنّما هي عذوبة خبرة وتمتُّع بالنور الحقيقي. فالله أرسل كلمته الإلهي نوراً يشرق على العالم المظلم، ويدخل قلب المؤمن وينير أعماقه كاشفاً له عن عالم الروح، لينعم المؤمن بخبرة برّ الله الساكن في نور لا يُدنى منه. الإيمان هو السراج، وكلمة الله المتجِّسد، يسوع، هو "النور الحقيقي الذي يضيء كلَّ إنسان آتياً إلى العالم" (يوحنّا 1: 9).
يتجلّى هذا النور الإلهي من خلال كلمة الله المكتوبة في الكتاب المقدس، والذي أضحت كلماته نوراً لسبيلنا. كلمة الله تكشف لنا كلَّ ما هو خطأ في حياتنا، وتقوِّم كلّ اعوجاج، وتعيدنا إلى جادَّة الحقّ. فالعالم تكتنفه الظلمةُ، وبدون المسيح سنعثر في هذا الظلام. الكتاب المقدس كلُّه موحى به من الروح القدس، وهو الزيت الذي يملأ السراج، إنّه السراج الذي يظلُّ مشتعلاً بزيت الروح القدس.
بهذه الروح المسيحية الكنسية العامرة بهدي نور الإيمان، عاش المثلَّث الرحمات طوال سني حياته الزاخرة بالعطاء والتفاني في الخدمة حتّى الرمق الأخير. وقد شاء الرب أن ينقله إليه فجر يوم عيد القديس يوسف البارّ خطيب أمّه مريم العذراء، والذي تدعوه الكنيسة شفيع الميتة الصالحة، وذلك في التاسع عشر من آذار الجاري.
حمل المثلَّث الرحمات معه أسس ميِّزاته الروحية والكهنوتية والراعوية من بيته الوالديّ، في هذه البلدة السريانية العريقة برطلّة بسهل نينوى في العراق العزيز. فيها وُلِدَ في 21 حزيران 1930، وتربّى على الإيمان والصلاة وصخرة الرجاء على يد والديه المرحومين شابا ابن الشمّاس متّوكة ابن القس روفائيل من عائلة باباكول، ووالدته مسكنته بنت زكريا هدايا. وعائلة باباكول هذه قدّمت لخدمة الرب والكنيسة ثلاثة من أبنائها، هم، إلى جانب المثلَّث الرحمات، القس روفائيل باباكول جدّ شابا والد المطران متّي، والقس يونان ابن عمّ القس روفائيل بابكول. في هذا الجوّ الكنسي، ترعرع في أحضان والديه مع أشقّائه الثلاثة الذين سبقوه إلى دار الخلود، وشقيقته الموجودة بيننا، وتلقّى الدروس الإبتدائية في بلدته.
ولمّا برز لديه التوق لخدمة الرب، لبّى النداء الإلهي إلى الرسالة المقدسة بفرح والتزام، وهو في الحادية عشرة من عمره. فقصد دير مار بهنام الشهيد حيث واظب على الدراسة والتمرُّس في الحياة الروحية حتّى صيف عام 1945، حين اختاره الأب اغناطيوس منصوراتي مع بعض تلاميذ الدير واصطحبهم معه إلى إكليريكية مار أفرام ومار مبارك في القدس بإدارة الآباء البندكتيين عام 1946، وهناك انكبّ على تحصيل العلوم التكميلية لمدّة سنتين، لينتقل بعدها عام 1948 إلى دير سيّدة النجاة البطريركي – الشرفة في لبنان مع سائر التلاميذ إثر اندلاع الحرب في فلسطين.
وفي دير الشرفة تابع متّي ما دأب عليه في القدس، فاكتسب مختلف العلوم مواصلاً دروسه التكميلية، ثمّ درس الفلسفة واللاهوت، وعُرِفَ بحبّه للنظام والقانون. وبعد انتهائه من تحصيل العلوم الكهنوتية، سامه المثلَّث الرحمات المطران أفرام حيقاري شمّاساً إنجيلياً في 30 أيّار 1954. وفي 17 تشرين الأول من السنة عينها، نال السيامة الكهنوتية، متَّخذاً اسم روفائيل تيمُّناً بالقس روفائيل جدّ والده، وذلك بوضع يد المثلَّث الرحمات البطريرك الكردينال مار اغناطيوس جبرائيل الأول تبّوني، في كاتدرائية مار جرجس في الباشورة – الخندق الغميق، بيروت، التي رمَّمناها وأعدنا بعث الحياة فيها من جديد بعدما دمّرتها يد الحرب المشؤومة في لبنان وبقيت مهدَّمة لأكثر من أربعين عاماً. وجاءت سيامته الكهنوتية هذه مع سبعة من زملائه، أصبح اثنان منهم بطريركين، هما المثلَّثا الرحمات البطريرك الكردينال مار اغناطيوس موسى الأول داود، والبطريرك مار اغناطيوس بطرس الثامن عبد الأحد، وثلاثة منهم ارتقوا إلى الدرجة الأسقفية. نذكر بشكل خاص زميليه صاحبي السيادة مار ربولا أنطوان بيلوني ومار فلابيانوس يوسف ملكي، والمقيمَين اليوم في دار المسيح الملك لراهبات الصليب في لبنان، حيث قضى المطران متّي معهما سني حياته الأخيرة.
تعيَّن المثلَّث الرحمات بدايةً معاوناً لرئيس دير مار بهنام في العراق المرحوم الخوراسقف أفرام عبدال، ومديراً لتلاميذ الدير. ثمّ استدعاه البطريرك تبّوني إلى لبنان في صيف عام 1955 ليقوم بالتدريس في الإكليريكية الصغرى بدير الشرفة، وعيّنه مديراً لهذه الإكليريكية في أيلول عام 1956، ونحن نذكره جيّداً حين كنَّا في الإكليريكية، وهو خدم كمدير لها مدّة ثلاثة أعوام بجدّ ونشاط، إلى أن عاد إلى دير مار بهنام في كانون الأول 1959 لمتابعة خدمته هناك. وفي أيلول عام 1960 عيّنه المثلَّث الرحمات المطران مار قورلّس عمانوئيل بنّي سكرتيراً له، واستمر في هذه الخدمة إلى أن دعاه المثلَّث الرحمات المطران مار أثناسيوس يوحنّا باكوس في العام التالي 1961 ليكون سكرتيراً له في مطرانية بغداد، فانتقل إلى بغداد وعمل أميناً للسرّ وأميناً للصندوق وكاهن رعية في الأبرشية البغدادية العزيزة.
خلال خدمته الكهنوتية في بغداد، عمل في مجال التعليم المسيحي في مدرسة الأبرشية آنذاك، وأسّس فرقتين للأخوية المريمية، وأنشأ جوقة التراتيل لكنيسة سيّدة النجاة في الكرادة وأشرف عليها لسنوات عدّة. وكسب من تربيته المسيحية والكهنوتية أجمل الفضائل، كالتقوى والنبل الأخلاقي وروح الصلاة، والتفاني في العطاء، والتواضع على رفعة، والفرح الداخلي، والكلمة اللطيفة، ودماثة الأخلاق، وطيب المعشر.
ونظراً للتقدُّم في السنّ، التمس المطران باكوس من السينودس المقدس انتخاب القس روفائيل أمين سرّه مطراناً معاوناً له، فاستجاب آباء السينودس وانتخبوه مطراناً في اجتماعهم خلال شهر آب عام 1979، وتمّت سيامته الأسقفية بوضع يد المثلَّث الرحمات البطريرك مار اغناطيوس أنطون الثاني حايك في كاتدرائية سيّدة النجاة بالكرادة في بغداد، في 8 كانون الأول من السنة عينها، واتّخذ الأسم الأبوي "مار ثيوفيلوس"، وعاد إلى اسمه منذ الولادة "متّي"، فأضحى يُدعى "مار ثيوفيلوس متّي"، وكانت هذه السيامة الأسقفية الأولى التي تتمّ في بغداد منذ نشأة الأبرشية.
وعلى أثر رقاد المطران باكوس، عُيِّنَ المطران متّي متّوكة مدبّراً بطريركياً لأبرشية بغداد، ثمّ انتخبه آباء السينودس المجتمعون في دير الشرفة في تمّوز 1984 رئيس أساقفة لأبرشية بغداد، وجرى تنصيبه وتوليته على كرسي الأبرشية في 12 آب 1984، حيث اتّخذ الإسم الأبوي "مار أثناسيوس".
خدم المطران مار أثناسيوس متّي أبرشية بغداد على مثال المعلّم الإلهي يسوع المسيح، راعياً صالحاً في أحلك الظروف التي عاشتها الأبرشية، من حرب وهدم وقتل وتهجير واحتلالات، وظلّ صامداً مع الآباء الكهنة والشعب المؤمن، فلم يهرب عندما كانت الذئاب تُقبِل، ولم يدع الخراف يوماً فريسةً لها، لأنّه راعٍ صالح ومدبّر حكيم وأب محبّ وأسقف غيور، وذلك طيلة سنوات أسقفيته على الأبرشية، من سنة 1984 إلى سنة 2010، كانت زاخرة بالعطاء، وسلّم الأمانة بمحبّة إلى خلفه صاحب السيادة أخينا المطران مار أفرام يوسف عبّا الذي يتابع المسيرة في الرعاية الصالحة لهذه الأبرشية المحبوبة.
خلال فترة رعايته لأبرشية بغداد، قام المثلَّث الرحمات بنتظيم الرعايا وتنشيط العمل الرسولي وسيامة الكهنة والعناية بهم وتنظيم خدمتهم، مفسحاً في المجال أمام العلمانيين ليقوموا بدورهم الفعّال في الخدمة الرعوية. أنشأ مراكز التعليم المسيحي في كلّ كنيسة، وأسّس مكتبة عامّة في كنيسة مار بهنام جمع فيها كتب المطرانية ومكتبة الخوري ميخائيل صايغ. وأنعش الجوقات الكنسية، وأسّس الأخويات التقوية معزِّزاً دورها في خدمة الكنيسة.
ومن إنجازاته العمرانية، قيامه ببناء دار جديدة للمطرانية وفّر فيها كلّ الشروط الحديثة للسكن والإدارة والاستقبال، وانتهى من بنائها عام 1990، ثمّ بناء دار جديدة ملاصقة لكنيسة مار بهنام لسكن كهنة الرعية، وعمارة كبيرة في عقد النصارى على أنقاض المطرانية القديمة، وترميم كنيسة مريم العذراء في المنطقة نفسها في الوسط التجاري القديم، وتشييد بناء قرب كنيسة مار بهنام يتضمّن قاعة فسيحة للمؤتمرات والمحاضرات، يعلوها طابقان يشتملان على عشرين غرفة للتعليم المسيحي والنشاطات الرسولية.
على صعيد العمل المسكوني، تعاون المثلَّث الرحمات مع أصحاب السيادة المطارنة رؤساء الأبرشيات البغدادية ومؤمنيها في الشهادة للإنجيل وتعزيز الإيمان المسيحي. وعزّز علاقات الصداقة والأخوّة مع المرجعيّات الإسلامية السنّية والشيعية في بغداد العزيزة ومنطقتها، فاحترمهم جميعاً وأحبّهم ومدّ إليهم يد التعاون، وسهر معهم على بناء مجتمع وطني واحد يتأمّن فيه خير الجميع وخير كلّ إنسان.
وقبل أن يطوي سنته الأخيرة في خدمة الأبرشية، حلّت النكبة الكبرى بمذبحة كاتدرائية سيّدة النجاة التي أدّت إلى استشهاد الكاهنين الشابّين ثائر عبدال ووسيم القسّ بطرس مع 46 من المؤمنين خلال القداس الإلهي ليلة عيد جميع القديسين في 31 تشرين الأول عام 2010، وكان لهذه المجزرة الرهيبة وقعٌ قويٌّ في نفسه وفي نفوس كلّ أبناء الكنيسة في كلّ مكان، ونحن الآن، مع سيادة راعي الأبرشية مار أفرام يوسف عبّا، بصدد متابعة ملفّ دعوى تطويب هؤلاء الشهداء الأبرار لدى مجمع دعاوى القديسين في الفاتيكان، على رجاء إعلان تطويبهم ورفعهم على المذابح قريباً بإذن الله.
ولـمّا قدّم استقالته من إدارة الأبرشية إثر بلوغه السنّ القانونية، عاش المثلَّث الرحمات فترة من الزمن مع أهل بيته في برطلّة العزيزة. ثمّ، بدعوةٍ منّا، عاش معنا في مقرّ كرسينا البطريركي في بيروت، لينتقل بعدها إلى دير سيّدة النجاة البطريركي – الشرفة. وفي السنوات الأخيرة أمضى فترة الشيخوخة في دار المسيح الملك لراهبات الصليب في برمّانا – لبنان، برعاية مباشرة منّا ومن سيادة أخينا المطران يوسف عبّا، حتّى اليوم الأخير من حياته.
كان المثلَّث الرحمات المطران مار أثناسيوس متّي متّوكة مثالاً في التواضع والطيبة والصلاة والإلتزام بالواجبات الروحية الجمهورية. فأحببناه كلّنا مع المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات والإكليريكيين في الكرسي البطريركي وجميع الموظَّفين. وها هم جميعاً يحزنون معنا لفقده، وقد شاركونا الصلاة لراحة نفسه يوم الثلاثاء الماضي مع عيد بشارة أمّنا مريم العذراء، في كنيسة مار اغناطيوس في مقرّ كرسينا البطريركي في بيروت.
نعم، أيّها الأحبّاء، بغياب هذاالحبر الجليل، تخسر كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية أحد أعمدتها الراسخة، لا بل عميد أحبارها، الذي اتّصف بالحكمة والفطنة، ونخسر نحن شخصياً كبطريرك أخاً عزيزاً وصديقاً صدوقاً وسنداً قوياً في خدمة الكنيسة. وكان قد اتّصل بنا للمرّة الأخيرة ليلة عيد مار يوسف ليقدِّم تهنئته لنا، كعادته في كلّ المناسبات.
تعازينا القلبيّة نقدّمها إلى إخوتنا أصحاب السيادة الأحبار الأجلاء المطارنة آباء السينودس المقدّس لكنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، ولا سيّما لأخينا مار أفرام يوسف عبّا رئيس أساقفة بغداد، ولأبرشيته، كهنةً ومؤمنين، ولأخينا مار بنديكتوس يونان حنّو رئيس أساقفة الموصل وتوابعها، ولسلفه في رعاية الأبرشية أخينا مار يوحنّا بطرس موشي، وللأبرشية، كهنةً ومؤمنين، ولأخينا مار نثنائيل نزار سمعان مطران أبرشية حدياب – أربيل وسائر إقليم كوردستان، ولأخينا مار أثناسيوس فراس دردر النائب البطريركي في البصرة والخليج العربي. ونعزّي بشكل خاص بلدة برطلّة الحبيبة، وشقيقة المثلَّث الرحمات وعائلتها، وعائلات أشقّائه المرحومين، وعموم آل متّوكة والأهل والأقارب والأنسباء في الوطن وبلاد الانتشار.
« ܙܶܠ ܒܰܫܠܳܡܳܐ ܐܳܘ ܟܽܘܡܪܳܐ ܙܰܗܝܳܐ܆ ܘܺܝܪܰܬ ܡܰܠܟܽܘܬܳܐ ܥܰܡ ܟܺܐܢ̈ܶܐ ܘܥܰܡ ܙܰܕ̈ܺܝܩܶܐ ܕܡܶܢ ܥܳܠܰܡ ܫܦܰܪܘ̱ ܠܰܐܠܳܗܳܐ ܒܥܰܡ̈ܠܰܝܗܽܘܢ ܘܰܒܕܽܘܒܳܪ̈ܰܝܗܽܘܢ »
"إذهب بسلام أيّها الحبر الجليل، ورث الملكوت مع الأبرار والصدّيقين الذين أرضوا الله من الأزل بأعمالهم الصالحة".
رحم الله المثلَّث الرحمات مار أثناسيوس متّي متّوكة، ومتَّعه بميراث الملكوت السماوي مع الرعاة الصالحين والوكلاء الأمناء، وعوّض على الكنيسة برعاة صالحين بحسب قلبه القدوس. وليكن ذكره مؤبَّداً.
|