الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
النصّ الكامل لموعظة غبطة أبينا البطريرك في قداس افتتاح السينودس المقدس للكنيسة السريانية الكاثوليكية في كاتدرائية الطاهرة الكبرى، قره قوش – العراق

 

    يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النصّ الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، بعنوان: "طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناءَ الله يُدعَون"، وذلك خلال القداس الذي احتفل به غبطته، وعاونه أصحاب السيادة آباء اليسينودس، بمناسبة افتتاح أعمال السينودس المقدس السنوي العادي لأساقفة الكنيسة السريانية الكاثوليكية، وذلك مساء يوم الأحد 10 أيلول 2023، في كاتدرائية الطاهرة الكبرى، قره قوش – العراق:

 

موعظة قداس افتتاح السينودس المقدس

كاتدرائية الطاهرة الكبرى، بغديدا (قره قوش)، العراق

الأحد 10 أيلول 2023

 

"طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناءَ الله يُدعَون"

 

    تحيّات ترحيب بالأساقفة، والخوارنة، الكهنة، الرهبان والراهبات...

    المدنيين والمسؤولين، أيّها الإخوة والأخوات المبارَكون بالرب...

 

    جئنا من لبنان لنؤكّد لكم اشتياقنا إليكم، أيّها الأحبّاء، أبناء وبنات بخديده قره قوش، وعموم أبناء وبنات أبرشية الموصل العزيزة. ونشكركم من أعماق قلوبنا لاستقبالكم مجمعنا الأسقفي، أي السينودس، الذي يُعقَد للمرّة الأولى في تاريخ كنيستنا خارج لبنان، منذ انتخاب البطريرك مار اغناطيوس بهنام بنّي في الموصل عام 1893. وباسم آباء السينودس المشاركين في هذه الذبيحة الإلهية، القادمين من بغداد وحدياب والبصرة، ومن سوريا بأبرشياتها الأربع، دمشق وحمص وحلب والحسكة، وأبرشية لبنان البطريركية، وأبرشية القاهرة - مصر، وأبرشية الأراضي المقدسة، ومن أبرشيتَي الولايات المتّحدة وكندا، ومن فنزويلا، ومن الوكالة البطريركية في روما، نتوجّه بخالص الشكر والتقدير لسيادة أخينا مار بنديكتوس يونان حنّو راعي أبرشيتكم، والآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات وجميع العاملين في اللجان، على استضافتنا وإنجاز ما يلزم، كي يتحقّق النجاح المطلوب لهذا السينودس السرياني التاريخي.

    جئنا لنقول لكم، كم هي عزيزة علينا مدينتُكم بخديده قره قوش، هذه المدينة الشاهدة والشهيدة التي نفخر بها ونعتبرها "لؤلؤة" السريان في الشرق. أجل، كنيستكم هي الشاهدة على إيمانكم الصامد بالرغم من تراكم المحن والمعاناة في السنوات الأخيرة. وهي الشهيدة من أجل الرب، إله المحبّة والسلام والعدالة. كنيستكم بقيت متجذّرةً في هذه الأرض المباركة الشهيرة بحضارة ما بين النهرين العريقة. كنيستكم سعتْ ولا تزال تسعى بصدق ورجاء، كي تتحقّق المواطنة الصحيحة بين جميع المكوّنات المتطلّعة إلى مستقبل مُشرِق للعراق الغالي.

    جئنا نقدّر فيكم سعيكم لعيش الإيمان الذي ورثتموه من آبائكم وأجدادكم عبر العصور الخوالي، ونُثمِّن فضيلة رجائكم وأمانتكم لإنجيل المحبّة والتسامح والإنفتاح على إخوتكم وأخواتكم، الذين يقاسمونكم هموم هذه المرحلة الصعبة، بعد أن أطفأَ وطنُكم نارَ الإرهاب الغاشم، الذي أوقدَتْه عصابات لا ضمير لها، ونفض رمادَ العنف الذي استمرّ أعواماً. لقد اختبرتم معمودية الدم، ولا تزالون تعانون مخلّفاتِ الفوضى التي كانت سبباً لتشرّد آلاف المهَجَّرين إلى ما وراء البحار والمحيطات. وكم تأثّرتُ خلال زيارتي الأخيرة إلى هولندا، إذ رأيتُ الكنيسة ملأى بمئات المؤمنين، وغالبيتهم من أهلكم وإخوتكم، يشاركون في قداس رسامة الخوراسقف سعدي.

    قصّة شعبنا الآرامي - السرياني، الذي به تسمّت بلاد الشرق الأدنى، أرضاً وكيانات، قصّةٌ طويلةٌ مع الحضارة الإنسانية والإيمانية، ومع الاستشهاد البطولي الذي يُثمِر للحياة. هي قصّة الإنسان الذي يُدرك أنّ مسيرته الأرضية لا تُحسَب بالأرقام والفتوحات، بل تنفتح قدر مساحة الروح نحو ملكوت السماء. هكذا شاءت العناية الإلهية أن يتألّم شعبنا في العراق وبلاد المشرق مع الفادي معلّمه، وأن تمتزج دماء شهدائه بدم الحمل الإلهي المسفوك على مذبح الحبّ والغفران.

    أيّها الأحبّاء، في خضمّ الحياة المعاصرة التي نعيشها، وفي هذا الزمن الذي يزداد تعقيداً، رغم أنّه حقّق خطواتٍ متقدّمةً في مجال العلوم والاقتصاد وتقارُب الشعوب، نرى التحدّيات تجابهنا من كلّ حدبٍ وصوب، وأمواج العالم تتقاذفنا بعيداً عن جادّة الإيمان الحقّ الذي ورثناه عن أسلافنا الميامين. وها هو مار بولس يذكّرنا في رسالته إلى الغلاطيين، بأنّنا دُعينا إلى الحرّية، لا لكي نستسلم لأنانيتنا، بل إلى حرّية تفتحُ لنا باب الخدمة المتفانية لبعضنا البعض. وهذا يتحقّق عندما نسلك سبيل الروح، أي المحبّة التي تهبُنا الفرح الحقيقي. فلا ننقاد إلى روح العالم الذي يستهوينا بمادّيته، بل نسعى لعيش دعوتنا المسيحية في حضن أمّنا الكنيسة المقدسة، بالصبر والوداعة والعفاف.

    وحده الرب يسوع فادينا هو مصدر سعادتنا الحقيقية، إذا اتّكلنا على نعمته التي تقوّي ضعفنا إزاء مغريات هذا العالم الزائل. فلنبقَ شهوداً حقيقيين للذي أحبّنا وبذل نفسه من أجلنا، ولنشهد له في حياتنا اليومية، عاملين بحسب تعاليمه ووصاياه، سائرين على درب آلامه نحو القيامة. وقدوتنا في ذلك، هم الرسل والقديسون والقديسات والشهداء والشهيدات، روّادنا في الإيمان والشهادة الحيّة للإنجيل.

    وها هو المعلّم الإلهي في إنجيل متّى، يستهلّ كرازته الخلاصية في موعظته على الجبل بالتطويبات التسع. فيطوّب المساكين بالروح، والودعاء، والحزانى، والجياع والعطاش إلى البرّ، والرحماء، وأطهار القلوب، والساعين إلى السلام، والمضطهَدين من أجل البرّ، والذين يعانون من إساءات الآخرين لهم في النفس والجسد. كلّ هؤلاء الذين نالوا الطوبى من الرب يسوع، هم الذين يسلكون سبيل الروح، ولكنّ العالم يتجاهلهم، بكبريائه واعتداده بنفسه وأنانيته. كم هو جميلٌ ونحن نتأمّل في التطويبة الخامسة: طوبى للرحماء فإنّهم يُرحَمون، أن نعود إلى طقسنا السرياني الأنطاكي الذي يُذكّرنا في لغتنا السريانية، بأنّ كلمة الرحمة تتقارب إلى حدٍّ كبير من كلمة الحبّ، الرحمة ܪ̈ܰܚܡܐوالحبّ ܪܶܚܡܬܐ. وهذا يعني أنّ الرحمة تنبع من المحبّة. لذا فنحن ندعو الله أباً سماوياً ملؤه الرحمة والغفران.

    "طوبى للساعين إلى السلام فإنّهم أبناءَ الله يُدعَون": هي الطوبى التي يوجّهها الرب يسوع إلى كلٍّ منكم اليوم، لأنّكم تبعتم يسوع على طريق آلامه، بتحمُّلكم التهجير من منازلكم، وافتراشكم الأرض طويلاً في الغربة، واستعدادكم للغفران كما غفر هو لصالبيه. وبهذا برهنتم أنّكم أبناء وبنات للآب السماوي، ودعاة سلام ورُسُل محبّةٍ لا تُميّز. وفي الوقت ذاته، نحن جميعُنا مسؤولون أن ندافع عن الحقّ والعدل واحترام الحقوق المدنية والحرّيات الدينية، لجميع المواطنين، لأيّ دين وعرق وطائفة انتموا، أكثريةً كانوا أم، كما يقول البعض، مكوّنات صغيرة.

    إنّ تاريخنا المشترَك، وهمومنا المتشابهة، وآمالنا الواحدة في نهضة وطننا، أمرٌ يدعونا إلى الخروج من ذواتنا والتعرّف على الآخر القريب، والذي هو في عَوَز ويحتاج إلى محبّتنا ورأفتنا. نضرع إلى الله الآب السماوي، خالق الكون ومدبّره، أن يوحّد قلوبنا، ويشركنا في بناء الوطن الواحد في عيش فاعل ومتفاعل، ومؤسَّس دوماً على مبدأ المواطنة الواحدة للجميع. إنّها حضارة المحبّة والرحمة، إليها يدعونا اليوم شهداؤنا وشهيداتنا، فلا نخيّب أملهم. على مثالهم لنكن "صانعي السلام"، فنستحقّ أن نُدعى "أبناء الله".

    في الرتبة المخصَّصة للسلام التي تقيمها كنيستنا السريانية يوم عيد قيامة الرب يسوع، ابتهالٌ نرفعه من أجل الكنيسة وثبات مؤمنيها بالإيمان واتّحادهم برباط المحبّة والسلام: «ܫܰܝܢܳܟ ܡܳܪܰܢ ܘܰܫܠܳܡܳܟ ܘܗܰܝܡܳܢܽܘܬܳܟ܆ ܗܰܒ ܠܳܗ̇ ܠܥܺܕܬܳܟ ܩܰܕܺܝܫܬܳܐ ܐܺܝܡܳܡܳܐ ܘܠܶܠܝܳܐ. ܘܒܰܛܶܠ ܡܶܢܳܗ̇ ܣܶܕ̈ܩܶܐ ܘܚܶܪ̈ܝܳܢܶܐ܆ ܘܰܐܥܒܰܪ ܡܶܢܳܗ̇ ܡܰܚܘ̈ܳܬܳܐ ܕܪܽܘܓܙܳܐ. ܘܢܶܬܶܠ ܫܠܳܡܳܐ ܠܰܚܕܳܕ̈ܶܐ ܒܠܶܒܳܐ ܕܰܟ̣ܝܳܐ܆ ܘܚܽܘܒܳܟ ܢܰܡܠܶܟ̣ ܒܰܝܢܳܬܰܢ ܦܳܪܽܘܩܶܗ ܕܥܳܠܡܳܐ. ܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ ܘܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ». وترجمته: "إمنح يا ربّ كنيستك المقدسة أمنك وسلامك والإيمان بك ليلاً ونهاراً. وكُفَّ عنها الشكوك والأباطيل، وأبعد عنها ضربات الغضب. ولنعطِ السلام بعضنا بعضاً بقلب طاهر، وليملك حبّك بيننا يا مخلّص العالم. هللويا وهللويا".

    نسألكم جميعاً، باسم آباء السينودس المجتمعين لديكم، أن تذكرونا في صلواتكم، كي نقوى بنعمة الرب على متابعة خدمة كنيستنا بتفانٍ وسخاء، هنا في المشرق وفي بلاد الإنتشار، تحت حماية العذراء مريم، سيّدة هذه الكاتدرائية الرائعة الجمال "الأمّ الطاهرة"، وبشفاعة جميع القديسين والشهداء. آمين.

 

 

إضغط للطباعة