الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
النص الكامل لموعظة غبطة أبينا البطريرك في القداس الختامي لمئوية مذابح إبادة السريان في دمشق

 
 

    ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي الكلي الطوبى، في قداس اختتام مئوية مذابح الإبادة السريانية، مساء يوم الأحد 20 كانون الأول 2015، في كاتدرائية مار جرجس البطريركية للسريان الأرثوذكس ـ باب توما ـ دمشق:

 

    ܩܰܕܺܝܫܽܘܬܶܗ ܕܰܐܚܽܘܢ ܡܳܪܝ ܐܺܝܓ̣ܢܰܛܺܝܳܘܣ ܐܰܦܪܶܝܡ ܬܪܰܝܳܢܳܐ ܟܽܠܳܢܳܝ ܛܽܘ̈ܒܶܐ

    ܐܰܚ̈ܶܐ ܚܣܰܝ̈ܳܐ ܡܥܰܠܰܝ̈ܳܐ

    ܟܳܗܢ̈ܶܐ ܘܰܡܫܰܡܫܳܢ̈ܶܐ ܘܕܰܝܪ̈ܳܝܶܐ ܘܕܰܝܪ̈ܳܝܳܬܳܐ ܡܝܰܩܪ̈ܶܐ

    ܥܰܡܳܐ ܒܪܺܝܟ̣ܳܐ

    ܡܶܬܟܰܢܫܺܝܢܰܢ ܝܰܘܡܳܢܳܐ ܥܰܡ ܚܕܳܕ̈ܶܐ ܘܡܶܫܬܰܘܬܦܺܝܢܰܢ ܒܗܳܢܳܐ ܩܽܘܪܳܒܳܐ ܐܰܠܳܗܳܝܳܐ، ܕܒܶܗ ܡܩܺܝܡܺܝܢܰܢ ܥܽܘܗܕܳܢܳܐ ܕܣܳܗܕ̈ܶܐ ܣܽܘܪ̈ܝܳܝܶܐ ܒܪܺܝܪ̈ܶܐ ܕܣܰܝܦܳܐ. ܗܳܠܶܝܢ ܕܰܗܘܰܘ ܩܽܘܪܒܳܢܳܐ ܡܩܰܒܠܳܐ،ܘܦܳܚ ܪܺܝܚܳܐ ܕܣܳܗܕܽܘܬܗܽܘܢ ܐܰܝܟ̣ ܥܶܛܪܳܐ ܗܰܢܺܝܳܐܐ ܘܪܽܘܡܝܳܢܳܐ ܕܚܽܘܒܳܐ ܕܪܰܥܺܝ ܠܰܐܠܳܗܽܘܬܳܐ.

    ܠܶܗ ܠܡܳܪܰܢ ܝܶܫܽܘܥ ܡܫܺܝܚܳܐ،ܗܰܘ ܕܶܐܬܺܝܠܶܕ ܒܰܡܥܰܪܬܳܐ ܕܒܶܝܬ ܠܚܶܡ،ܡܶܬܟܰܫܦܺܝܢܰܢ ܕܢܰܫܘܶܐ ܠܰܢ ܕܢܶܗܘܶܐ ܐܰܡܺܝ̈ܢܶܐ ܠܰܕܡܳܐ ܕܨܰܘܪ̈ܰܝܗܽܘܢ،ܘܢܺܝܚܶܐ ܝܰܘ̈ܡܳܬܳܐ ܕܚܰܝ̈ܰܝܢ ܒܟܽܠ ܡܳܐ ܕܠܰܐܠܳܗܳܐ ܡܪܰܥܶܐ ܐܰܟ̣ܘܳܬܗܽܘܢ.

    ܬܰܘܕܺܝ ܣܰܓܺܝ ܐܰܚܽܘܢ ܟܽܘܡܪܳܐ ܡܥܰܠܝܳܐ ܠܰܙܡܺܝܢܽܘܬܟܽܘܢ.

    ܚܢܰܢ ܕܶܝܢ ܥܺܕܬܳܐ ܣܽܘܪܝܳܝܬܳܐ ܚܕܳܐ ܐܺܝܬܰܝܢ، ܘܚܰܕ ܥܰܡܳܐ، ܘܥܰܡ ܚܕܳܕ̈ܶܐ ܦܳܝܫܺܝܢܰܢ ܠܦܽܘܬ ܦܽܘܩܕܳܢܶܗ ܕܡܳܪܰܢ ܝܶܫܽܘܥ.

 

    قداسة أخينا مار اغناطيوس أفرام الثاني، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للكنيسة السريانية الأرثوذكسية الشقيقة الكلي الطوبى

    أصحاب المعالي والسيادة

    أصحاب النيافة والسيادة الأحبار الأجلاء

    الآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل

    أيها المؤمنون الأحباء

 

    لقد شاءت العناية الإلهية أن نجتمع اليوم معاً لنقيم نقيم احتفالنا الروحي هذا ونشترك بالذبيحة الإلهية اللتي يقيمها صاحب القداسة مختتمين الذكرى المئوية لمذابح الإبادة، "سيفو ـ السوقيات"، التي تعرّض لها شعبنا السرياني مع إخوتنا الأرمن والكلدان والآشوريين والروم، عام 1915، في ما كان يسمّى آنذاك الأمبراطورية العثمانية، وهي مناسبة يشوبها الألمُ والحزن مع غلبة الفخر والإعتزاز. ومَن تُراه أفضل من بولس رسول الأمم، يمتدحُ بسالةَ الشهداء في الدفاع عن إيمانهم وتوقهم لاتّباع يسوع فاديهم: "إننا من أجلك نُمات كلّ النهار، وقد حُسبنا مثل غنمٍ للذبح" (روما 8: 36).

 

    عُرف شاول ـ بولس باضطهاده المسيح في شخص تلاميذه، لكنّه بعد اهتدائه وهو على طريق هذه المدينة المباركة دمشق، راح يحمل مشعل الإيمان محتملاً كلّ أنواع الإضطهادات حبّاً بمعلّمه وفاديه، ومعلناً بشرى الخلاص كلؤلؤة وجدها فحفظها وأُولِع بها، راجياً فوق كلّ رجاء حتى سفك الدم، لأنّ لا شيء في الحياة الدنيا كما يقول: "يقدر أن يفصلنا عن محبّة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (روما 8: 39).

    وعلى مثال رسول الأمم، سارت المسيحية جيلاً بعد جيل، شاهدةً لإنجيل المحبّة والسلام، وشهيدةً حبّاً بفاديها، منذ القديس اغناطيوس النوراني شفيع كرسينا البطريركي السرياني، راعي كنيسة أنطاكية بعد بطرس الرسول وأفوديوس، الذي نحتفل اليوم بعيده، وقد أغنى الكنيسة بتعاليمه ورسائله الراعوية، ولعلّ أحد أبرز أقواله: "أتركوني فريسةً للوحوش، فهي التي توصلني سريعاً إلى الله، وكحبّة حنطة أُطحن تحت أضراسها لأُخبَز خبزاً نقياً للمسيح".

    وبعده عرفت الكنيسة الألوف من الشهداء والشهيدات المعروفين المكرَّمين منهم، وأولئك المجهولين الذين كُتِبت أسماؤهم في السماء. لقد كابد شعبنا السرياني على مرّ العصور، صنوف الإضطهاد من تمييزٍ عنصري وتحقيرٍ وتنكيلٍ، وذلك لأنه أراد أن يحيا إيمانه على أرضه وفي وطنه. وما يؤلمنا حقيقةً، هو أنّ مذابح الإبادة ـ المجزرة التي نكّلت بشعبنا السرياني بجناحيه الأرثوذكسي والكاثوليكي، في جنوب شرق الدولة العثمانية، لم تقم بها شعوبٌ تتصارع فيما بينها في غياهب أزمنة الجهل، بل تمّت في العصور الحديثة على مرأى من العالم المعروف آنذاك. تلك مجازرٌ يندى لها جبين الإنسانية المتلهّية آنذاك بصراعات بسط النفوذ واكتساب الغنائم. فهناك المجرمون الذين خطّطوا لها والبرابرة الهمجيون الذين نفّذوها، هناك من شارك بالتحريض أو بالفعل أو بالصمت المطبَق. آلافٌ مؤلَّفةٌ من المواطنين الأبرياء، أحبار وكهنة وشمامسة، رهبان وراهبات، رجال ونساء، شبّان وشابّات، أطفال ورضّع، من مختلف الأعمار والطبقات الإجتماعية، أُهينوا وضُربوا، عُذِّبوا وسيقوا سوق الخراف للذبح، أو قُتلوا وزُجُّوا في الوديان والأنهار، وماتوا تائهين في الجبال والبراري، عطاش، جائعين... فمَن يُنصفهم..!

    لم يحمل هذا الشعب البريء سلاحاً ليعتدي به على أحد أو لينتقم من الذين ينوون له شرّاً. وما اتُّهم بجرمٍ أو جريرة، بثورةٍ أو خيانةٍ إلا كذباً وتلفيقاً..! جريمته الوحيدة بل خطيئته التي لا تُغتفر في نظر المضطهدين، أنه لم يكن يدين بدين الأغلبية التي أعمى قلبها الحقد والتكفير. ما ذنبُ أجدادنا وجداتنا الأبرياء الشهداء، إن هاموا بحبّ معلّمهم السماوي حتى الموت، ولا شيء استطاع أن يفصلهم عن حبّه!

    ظنّ الذين تهافتوا على قتل أهلنا الأبرياء وتهجيرهم والعالم المتمدّن غافل، أنّها النهاية لشعبنا، وأنّ جرائمهم ستُطمَر في غياهيب التاريخ! خاب أملك يا موت! لقد تناسوا أنّنا أولاد القيامة والحياة. بالإيمان والقيم بنينا الأوطان، فشيّدنا قبب الكنائس، وشرّعنا أبواب الأديرة والمدارس. وكنّا نجهد بالصبر والتضحية تائقين إلى الإرتقاء بالإنسان السليم والمحبّ للسلام... ولكنّ التعصّب المقيت والجهل الدفين شوّها الدين والأخلاق، فسُفِكت الدماء البريئة الطاهرة قرابين حبّ وإخلاص ليسوع المخلّص، حتى غدت دماء شهدائنا بذار الإيمان الذي به نحيا، (ترتيليانوس).

    جئنا اليوم أيّها الاحباء لنصلّي في ذكرى شهدائنا، الذين بذلوا كلّ شيءٍ شهادةً لإيمانهم البطولي حتى سفك الدم على خطى الرب يسوع مثالنا في الحب والفداء. وها هم آباؤنا السريان يتغنّون بالشهداء وبثمار شهادتهم، إذ يقولون:

    "ܠܟܽܘܢ ܛܽܘܒܰܝܟܽܘܢ ܣܳܗܕ̈ܶܐ ܚܠܺܝ̈ܨܶܐ ܕܰܡܫܺܝܚܳܐ،ܕܒܰܕܡܳܐ ܕܨܰܘܪ̈ܰܝܟܽܘܢ ܫܰܪܰܪܬܽܘܢ ܠܗܰܝܡܳܢܽܘܬܳܐ ܕܺܝܠܟܽܘܢ. ܘܰܗܘܰܝܬܽܘܢ ܚܕܽܘ̈ܓܶܐ ܫܰܦܺܝܪ̈ܶܐ ܘܰܡܨܰܒ̈ܬܰܝ ܒܓܰܘ̈ܢܶܐ ܗܕܺܝܪ̈ܶܐ ܒܡܶܫܬܽܘܬܶܗ ܕܶܐܡܪܳܐ ܫܡܰܝܳܢܳܐ".

    "طوباكم يا شهداء المسيح الشجعان إذ ثبّتّم إيمانكم بدم أعناقكم. وأضحيتم مدعوين متميّزين في وليمة الحمل السماوي، إذ ترفلون بالألوان البهية".

 

    لقد أحيينا الذكرى المئوية لهذه المجازر ـ الإبادة، بقداديس واحتفالات ونشاطات ومؤتمرات وأمسيات صلاة وترنيم، في بلدان الشرق وعالم الإنتشار حيثما يوجد السريان. وكان قمّتها المؤتمر المشترك الذي عقدتها بطريركيتانا السريانيتان بعنوان "إبادة السريان شهادة وإبمان" في جامعة الروح القدس ـ الكسليك ـ لبنان، وجاء علامةً ساطعةً على روح المحبة والأخوّة والوحدة التي تؤكّد أننا كنيسة واحدة وشعب واحد موحّد بإيمانه وشهادته. وخلال هذه الإحتفالات برهنّا عن فخرنا واعتزازنا بشهدائنا الأبرار الذين أضحوا بخوراً عطراً على مذبح الشهادة، وكواكب مضيئةً في عتمة الليل الطويل، حيث شاءت العناية الإلهية أن نبقى صامدين ومتجذّرين. فمن شهادتهم نستقي العِبَر، ومن شفاعتهم ننال المعونة من الرب، كي نجابه أمواج الشرّ والتكفير والأحقاد بنعمة من الربّ فادينا يسوع المسيح الذي وعدنا أن يبقى معنا حتى انقضاء الدهر.

     من سوريا الحبيبة وسائر بلداننا في هذا الشرق المعذَّب، إلى أبنائنا في أوروبا وأميركا وأستراليا وبلدان الإنتشار كافةً، يا من حملوا مشعل الشهادة ووديعة الإيمان، أجملَ تحيةٍ ننقلها لكم. ما أشبه اليوم بالأمس، فها هو شرقنا ينزف دماً ودماراً وخراباً. ورغم المحن والنكبات، فإنناواثقون بأنّ الله "يوجِد من المحنة خلاصاً"، فهو الراعي الصالح الذي يسهر على القطيع ويشجّعه للإنطلاق في جدّة الحياة بإيمانٍ ثابتٍ لا تزعزعه الأنواء ولا تنال منه الشدائد.

 

    بعد أيامٍ معدودة، نستقبل الرب يسوع الإله الذي صار بشراً وسكن بيننا، ونحتفل بعيد ميلاده بالجسد، عيد الفرح والسلام والرجاء بولادةٍ جديدةٍ للإنسان، فإنّ عالمنا الحاضر بأمسّ الحاجة لكلّ بصيص أملٍ نوفّره لبلداننا وشعبنا المضطهَد والمهجَّر والمقتلَع قسراً من أرض الآباء والأجداد، ليس لذنبٍ سوى أنه مؤمنٌ بمعجزة الميلاد، لقاء الله مع الإنسان.

   نحن، رعاة هذا الشعب المضطهَد، نقف اليوم أمام مفترقٍ تاريخي في مسيرة شعبنا الذي وُلد وعاش على هذه الأرض.

    ففي هذا البلد الحبيب سوريا، نرى الأزمة وقد دخلت عامها الخامس، وكانت سبباً في تدميرٍ لا مثيل له للأرض والبنيات التحتية والمعالم الحضارية، وحملت معها قتل مئات الآلاف وتشريد الملايين، وزرعت البغض في النفوس، ونشرت التعصّب الطائفي بين المكوّنات التي كانت عنوان غنى هذا البلد المحبوب في التعدّدية والتسامح والإشعاع. إنّنا نناشد المجتمع الدولي التوقّف عن تأجيج الإقتتال الداخلي في سوريا، فلا يكون هذا الشعب وحريته وحياته أهدافاً لصراعات الدول ومصالحها الإقتصادية والسياسية. فليتّحد العالم، وليطرد الإرهابيين من سوريا.

    ونتساءل هل أنّ صور تدمير المدن والمعالم الأثرية لا تستحقّ التفاتةً من قادة هذا العالم؟ ونذكر هنا خاصةً تدمير دير مار اليان الناسك وضريحه في القريتين بحمص، وكذلك الإعتداءات الهدّامة على الكنائس والأديرة والمعالم المسيحية في معلولا وصدد وقرى الخابور بالجزيرة. ألا تُدمي مشاهد القتل والدمار قلوب العالم؟ ألا يستحقّ الذين يَنشدون الخلاص ويغرقون في البحار أن يجدوا رحمةً في قلوب الذين يموّلون هذه الحرب العبثية ويديرونها؟، ونحن نعتزّ أنّ كثيرين من مسيحيي سوريا قرّروا البقاء وعدم الهجرة. إنّنا نتضرّع إلى المخلّص كي يكون ميلاده في مغارة نوراً وهدايةً في العقول والقلوب، فتتوقّف هذه الحرب العبثية، ويتّحد الشعب السوري لبناء دولته، دولةً حديثةً ديمقراطية.

    وفيما نشكر الله فرحين لعودة الأب جاك مراد إلى الحرية، لا يسعنا إلا أن نعلي الصوت مع جميع أصحاب النيّات الحسنة، فنجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، وفي مقدّمتهم أخوانا مطرانا حلب الجليلان مار غريغوريوس يوحنّا ابراهيم وبولس اليازجي، والآباء الكهنة ميشيل كيّال واسحق محفوظ وباولو داللوليو، والمدنيون، وبخاصة أبناء شعبنا في القريتين وحلب وقرى الخابور. 

    وإن نظرنا إلى لبنان، تحسّرنا على ما آلت إليه الأمور. صحيحٌ أنه لا يزال بمنأىً عن الحروب التي تدور حوله، ما عدا مناطق محدودة فيه أصرّ أعداؤه الإرهابيون على تهديدها، إلا أنّ انقسامات السياسيين أدّت إلى الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية منذ أكثر من سنةٍ ونصف، وهو الموقع المسيحي الوحيد في هذا الشرق، والقادر أن يعيد إلى الجمهورية عنفوانها وكرامتها وموقعها بين الدول، وأن يجدّد الحياة السياسية السويّة في النظام اللبناني، وأن يقيها خطر الأزمات السياسية والأمنية والإجتماعية والإقتصادية التي تعصف بها من كلّ حدبٍ وصوب.

    أمّا العراق، فقد مرّت سنةٌ ونيّف على طرد أبناء شعبنا من مدينة الموصل وقرى وبلدات سهل نينوى، وتدمير الكنائس والمعالم الدينية والآثار التي تشهد على عمق تجذُّر شعبنا في أرض العراق الغالي، ولعلّ أحد أبرزها دير مار بهنام الشهيد الذي يضمّ ضريحه. كلّ هذا يحدث والمجتمع الدولي لا يحرّك ساكناً، بل يبقى صامتاً غير مبالٍ تجاه هذه الجرائم ضدّ الإنسانية.

 

    ما هو موقفنا من هذه النكبات والمآسي التي حلّت لمئة سنةٍ خلت؟ من الواجب أن نقتنع ونُقنِع الآخرين بأنّنا لسنا من الذين يلجأون إلى النوح والتباكي كما قد يتّهمنا البعض! ولسنا من هواة الإنتفاع من المآسي التي حلّت بمواكب الأجداد والجدّات، فنطالب بتعويضٍ مادّي، ولن نكون أبداً من الذين يسوّقون التشاؤم. بل من واجبنا أن نستطلع "علامات الأزمنة"، ونكتشف تدبير العناية الإلهية في زمن الضيق، كي نحوّله إلى زمن النعمة. وفي الوقت ذاته نطالب حكّام دولةٍ عثمانيةٍ لم تعرف أن تحافظ على حقوق مواطنيها في الماضي، أن يحكموا بالعدل والحق ويعيدوا لنا ما اغتُصِب في زمنٍ لم يسمَح لأهلنا أن يطالبوا بحقوقهم ليحموا كنائسهم وأديرتهم وممتلكاتهم في المقاطعات الوسطى والشرقية حيث عاش أجدادهم لعصورٍ أوغلت في القدم.

    الكلّ يعلم بأنّنا، نحن السريان، إنطلاقاً من هذا المشرق المعذَّب عبرَ تاريخه القديم والحديث والمعاصر، أنرنا العالم بالعلم والمعرفة، ونثرنا مواهبنا شعراً وفكراً وترجمة. ولقد جاءت شهادتنا لإنجيل المحبّة والسلام، معمَّدةً بالدم ومكلَّلةً بغار الإستشهاد... أهدينا الشعوب حضارةً ورقيّاً، ولم نسلب أحداً، ولم نعتدِ على غيرنا، ولا طمعنا بسلطةٍ وحكمٍ، ولا اغتصبنا أرضاً، ولا شرّدنا شعباً، وستبقى حضارتنا السريانية الأمّ نبراساً لتلاقي الأمم والأعراق والديانات. ألا يحق لنا أن نتساءل: أين الضمير العالمي؟ أين أصحاب النيات الصالحة؟ أين دعاة الحفاظ على حقوق الإنسان والمتبجّحون بالدفاع عن قضايا الشعوب المستضعَفة؟ ألم يحن الوقت بعد ما نقرأ ونسمع ونشاهد من الفظائع التي تُرتَكب باسم الدين، أن نقف معاً لنرفض تسييسه، ونمدّن خطابه، ولا نميّز بين مذهبٍ وعرقٍ ولون، نفوساً ونصوصاً؟

    نحن لسنا دعاة عنفٍ أو انتقام، إنما دعاة سلامٍ ومحبّةٍ وتسامُح. نستذكر شهداءنا للعبرة والصلاة والتشجيع على التمسّك بالإيمان، وعلى المضيّ نحو المستقبل برجاءٍ ثابتٍ بالرب إله السلام، آملين أن يقتنع جميع المواطنين في بلدان الشرق الأوسط بهذه المقولة التي تردّدها غالبيتهم: "الدين لله والوطن للجميع!". وبهذا المنطق، نحن نفتخر بالأمانة للقيادة التي اختارها شعب سوريا الأبيّة، بشخص سيادة رئيس الجمهورية الدكتور بشّار الأسد، ومعاونيه في الدولة.

إليكم نتوجّه يا أحبّاءنا في بلاد الشرق وعالم الإنتشار، أنتم أولاد الشهداء والشهيدات وأحفادهم، حافظوا على مَعين الرجاء تستقونه من إيمانكم. وتمسّكوا بكنيستكم الأمّ ولغتها السريانية العظيمة، لا تنسوا جذوركم في أرض شرقنا ذي الحضارة العريقة. عهدُنا لكم أنّنا معكم سنحافظ على الأمانة لهويتنا ورسالتنا.

 

    وخير ما نختم به، هذا النداء الأبوي الذي أطلقه قداسة أخينا البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثاني في افتتاح هذه الذكرى المئوية من هذه الكاتدرائية وهذه المدينة بالذات، مساء الأحد 11 كانون الثاني المنصرم، إذ قال: "إنّ رسالتنا اليوم واضحةٌ، ونطلقها من هنا، من دمشق عاصمة التاريخ، وليسمع العالم بأسره: هذه أرضنا ولن نتركها، مهما فعلتم بنا، ومع القديس بولس نصرخ ملء الحناجر: من سيفصلنا عن محبة المسيح والوطن؟ أشدّةٌ، أم ضيقٌ، أم اضطهادٌ، أم جوعٌ، أم عريٌ، أم خطرٌ، أم سيف؟".

    والله نسأل أن يؤهّلنا لنكون شهوداً لمحبّته، ومبشّرين بسلامه على الدوام.

    "طوبى لفاعلي السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعَون".

 

إضغط للطباعة