الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
رسالة غبطة أبينا البطريرك في عيد القيامة 2011

 

رسالة غبطة أبينا البطريرك في عيد القيامة 2011

"ليس هو ههنا، لكنه قام كما قال ... ونحن شهودٌ على ذلك"

 

          إلى إخوتنا رؤساء الأساقفة والأساقفة الأجلاء

          والآباء الكهنة والرهبان والراهبات والشمامسة الأفاضل

          وأحبائنا المؤمنين أبناء شعب الله وبناته المباركين

 

          نهديكم البركة الرسولية والنعمة والمحبة والسلام باسم ربنا يسوع المسيح القائم من بين الأموات، منتصراً على الخطيئة وعلى الموت ثمرتها، مصالحاً البشرية مع الله خالقها، ومبشّراً الخليقة جمعاء بالسلام والخلاص.

          في هذه الأيام المباركة، يحتفل العالم المسيحي بأسره في مشارق الأرض ومغاربها بفرح عيد القيامة سويةً، فصح العهد الجديد، الذي يقيم ذكراه الخلاصية المسيحيون حيثما وُجدوا، رافعين آيات الشكر للآب السماوي، إذ أنعم عليهم بعيدٍ مشتركٍ للسنة الثانية على التوالي.

          يخبرنا الإنجيل المقدس بأنّه في فجر يوم الأحد، وهو أول الأسبوع، أشرق نور قيامة المسيح الفادي من بين الأموات، وتبدّدت ظلمة الموت. فالصخرة الكبيرة التي دُحرجت ما زالت على باب القبر، والأكفان والمنديل الذي كان على رأسه داخل القبر وُجدت كلّها ملفوفة ومرتّبة، ولكنّ القبر كان فارغاً من جسد الرب! لذلك قال الملاك للنسوة: "أنتنّ تطلبنَ يسوع الناصري المصلوب، إنه قام وليس ههنا، وهذا هو المكان الذي كانوا قد وضعوه فيه" (مر 16: 6). لقد قام المسيح من القبر كما قال ووعد، مجلَّلاً بالنور والبهاء والمجد والكرامة!

          ولأنّ إيماننا مؤسَّسٌ على شخصٍ وليس على مجرّد مبادىء أو إيديولوجيات أو عقائد نظرية، فصحّته مرتبطةٌ بشكلٍ وثيق بقيامة الرب التي أضحت الحجر الأساس لهذا الإيمان، حسب تأكيد مار بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: "وإن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم أيضاً باطل" (1 كور 15: 14). وهكذا انطلق التلاميذ يجاهرون بالبشرى السارة، قيامة الفادي، بقوّة الروح، وختموا شهاداتهم بدمائهم، ورجاؤهم الأوحد أن يتّحدوا بالرب معلّمهم الإلهي إلى الأبد.  

          قيامة الرب يسوع إذن، هي إثباتٌ للاهوته وصدق رسالته، بل هي أهمّ حدثٍ نؤمن به، إذ يوثق علاقتنا مع الكلمة الإلهي المتجسّد والفادي. فلو تمكّنت الهاوية من الإحتفاظ بجسد فادينا الطاهر مدفوناً في القبر، ولو استطاع الموت إبقاءه تحت سلطانه، لزالت المسيحية واندثرت. لكنّ المسيح أبطل الموت بموته وقيامته، ودكّ أركان الهاوية بنزوله إليها، ومنح العالم حياةً جديدةً منفتحةً على الأبدية، عاقداً عهد الحرية "والسلام للقريبين كما للبعيدين" (من رتبة السلام، عيد القيامة).

          لقد تنبّأ الفادي عن سرّ آلامه وموته وقيامته خلال حياته العلنية، وكشف ذاته لخاصته: إنه والآب واحد، وهو "القيامة والحياة" (يو 11: 25)، وهو "الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). ومثّل سرّ موته وقيامته أيضاً بالحدث المعجزة الذي جاء في سفر يونان النبي الذي كان في جوف الحوت ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ، إذ مكث المسيح في القبر إلى أن خرج منه ظافراً في اليوم الثالث (مت 12: 40).

          وفي طقسنا السرياني ابتهالٌ لمار شمعون الفخّاري (+514 م)، ننشده على لحن ܩܽܘܩܳܝܳܐ (قوقويو). وهو إذ يتأمّل القيامة محلّقاً بشاعريته، يقول على لسان الرب: "ܡܰܥܨܰܪܬܳܐ ܕܳܫܶܬ ܒܰܫܝܽܘܠ ܓܰܢ̱ܒܳܪܐܝܬ܆ ܘܩܺܐܪܣܳܐ ܐܰܪܥܶܬ ܒܰܠܚܽܘܕܰܝ ܘܒܰܕܡܳܐ ܐܶܬܦܰܠܦܠܶܬ܆ ܘܩܳܡܶܬ ܒܙܳܟ̣ܘܬܳܐ". وترجمتها: "لقد دستُ المعصرة في الهاوية بقوةٍ وجبروت، وخضتُ المعركة وحدي وتضرّجتُ بالدم، وقمتُ من القبر ظافراً".    

          وقيامة الرب تتوّج الآيات التي صنعها، سيّما عندما أقام الموتى برهاناً عن سلطانه الإلهي على الخطيئة والموت. لقد أقام الفتاة ابنة يائيرس بقوله لها: "طليثا قومي" (مر 5: 41)، فعادت إليها الحياة ونهضت معافاة. كذلك أقام ابن أرملة نائين: "يا فتى، أقول لك: قم!" (لو 7: 14)، وسلّمه إلى أمه حيّاً. وقبيل صعوده الأخير إلى أورشليم، أقام لعازر بعد أربعة أيام من موته ودفنه: "يا لعازر، هلمَّ فاخرج" (يو 11: 43)، فخرج حيّاً. 

          قام يسوع من القبر وظهر لتلاميذه بعد قيامته، منفردين ومجتمعين، لمدة أربعين يوماً يعلّمهم ويرشدهم. ظهر أولاً لمريم المجدلية وللنسوة ولتلميذَي عماوس، وقد خفيت أولاً عن أعين هذين التلميذين الحائرين معرفة الرب، ثم ما لبثا أن عرفاه، فعادا ليلتهما تلك إلى أورشليم يبشّران الإخوة بقيامة المعلّم. وظهر يسوع للتلاميذ في العلّية والأبواب مغلقة ولم يكن توما معهم. وظهر لهم مرة أخرى وتوما معهم، وأراهم آثار جراح الصليب ظاهرةً في يديه ورجليه وجنبه، ليثبّتهم في الإيمان. لقد امتلأت قلوب التلاميذ بهجةً وسروراً بعد القيامة، فتحوّلوا من ضعفاء خائفين ومشكّكين إلى رجالٍ شجعان ثابتين في الإيمان، يعترفون بالمسيح ربّاً وإلهاً، ببساطة وبسالة وجسارة أمام الملوك والرؤساء والولاة: "وكان الرسل يؤدّون الشهادة بقيامة الرب يسوع تصحبها قوةٌ عظيمةٌ، وعليهم جميعاً نعمةٌ وافرة" (أع 4: 33). ما أروع الشهادة التي قدّمها هؤلاء الرسل! فبطرس مثلاً الذي ارتعد أمام امرأةٍ ونكر المعلّم ثلاثاً، نراه يؤكّد دون خوفٍ أو تردّد في خطابه يوم الخمسين، يوم العنصرة أي حلول الروح القدس الذي صار يوم ولادة المسيحية، ويعلن على الملأ أمام الجموع قائلاً: "فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن بأجمعنا شهودٌ على ذلك" (أع 2: 32). كما تراءى الرب يسوع لشاول (بولس)، فحوّله من مضطهِدٍ للمؤمنين "بيسوع الناصري" إلى رسولٍ للأمم. 

           أيها الأحباء، في خضمّ الحياة المعاصرة، وفي هذا الزمن الذي يبدو وكأنه يزداد تعقيداً عمّا عاشته البشرية ماضياً، نرى التحديات تجابهنا من كل حدبٍ وصوب، وأمواج العالم المتلاطمة تتقاذفنا وتكاد تحيد بنا عن جادة الإيمان الحق، إذ تبثّ في نفوسنا سموم الشك وتلهينا عن عمل خلاصنا وغاية وجودنا. نحن اليوم مدعوون أكثر من أيّ يومٍ مضى، لأن نعود فنتأمّل بإيمانٍ عميق بسرّ قيامة الرب، بغلبة النور على قوى الظلمة، وانتصار الحياة على الموت. نعود باستسلامٍ لتدبير الرب الخلاصي، فنؤكّد مشدّدين على أهمية الرجوع إلى الرب يسوع بصلاتنا الفردية والجماعية في حضن أمّنا الكنيسة المقدسة، متّكلين على نعمته وقوّته التي تشدّد ضعفنا وتنشلنا من كبوتنا. هكذا نصبح شهوداً حقيقيين لذاك المعلّم الصالح الذي أحبنا وبذل نفسه دوننا، ونشهد له في حياتنا اليومية، عاملين بحسب تعاليمه ووصاياه، سائرين على درب آلامه نحو القيامة. وإننا نتعزّى إذ نجد القدوة المثلى لنا في "رسل القيامة الحقيقيين"، إنهم أولئك القديسون والقديسات والشهداء والشهيدات الذين هم روّادنا في الإيمان وفي عيش بشرى الإنجيل. وفي يومنا هذا، لنا مثالٌ في فهم معنى الفداء والقيامة، أولئك المتطوّعون الذين يضحّون بسلامتهم الشخصية في سبيل حياة الناس عبر معالجة أضرار المفاعل النووي في فوكوشيما ـ اليابان.

          إنّ تعزيتنا الكبرى، بل رجاءنا الذي لا يخيب، أن نحيا حياة التسليم الكلي للحب الإلهي المتجسّد في ربنا وفادينا يسوع المسيح، الذي يحفظنا من كل سوءٍ ويحيطنا بعطفه وحنانه ورعايته، وهو لنا ترس الخلاص والنجاة مهما اعترض دربنا من صعوبات. أجل، إنّ المسؤولية الملقاة على عاتقنا، إكليروساً كنّا أو مكرّسين أو مؤمنين نحيا في العالم، هي اليوم كبيرة لا بل خطيرة جداً!، إذ علينا أن نكون حقّاً وحقيقةً "نور العالم وملح الأرض"، تعكس أعمالنا دوماً، قبل الأقوال والنصائح، عمل الرب وقوّة قيامته فينا.

أحبائي، إنّ السلام الذي بشّر به الرب تلاميذَه بعد قيامته من بين الأموات هو اليومَ خير عطيةٍ ربانيةٍ يحتاج إليها الأفراد كما العائلات والمجتمعات. هذا السلام الذي نتوق إليه كما سائر البشر في أيامنا، سيبقى هبة الرب القائم من بين الأموات: "السلام أستودعكم وسلامي أعطيكم، لا أعطي أنا كما يعطي العالم" (يو 14: 27). يكفي ما نرى ونسمع عن التحوّلات العنيفة والأوجاع التي يئنّ بسببها عالمنا، لا سيّما في بلدان مشرقنا المتوسطي، التي فُرض عليها أن تجتاز آلام المخاض نحو ولادة المجتمع المدني الحرّ والكريم. وقد عرف آباء كنيستنا الأقدمون كم هي عظيمةٌ حاجة الإنسانية إلى السلام، فجعلوا من السلام محوراً لرتبة القيامة في طقسنا السرياني. فهو السلام النابع من ثقتنا التامّة بعناية الرب بنا وبحبّه غير المشروط لنا. سلام القيامة، وحده، ينير لنا طريق الحياة. فما أحوجنا إليه في أيامنا هذه، لا سيّما في شرقنا الغالي!

          لنضرع جميعاً إلى فادينا القائم من بين الأموات، كي يحمي العالم من كل مكروه، ويهدي بلادنا المشرقية إلى طريق الخير والعدل والسلام. لنصلِّ ولا نملّ، كي يعي جميع المواطنين في بلادنا مسؤولياتهم المدنية والأخلاقية تجاه وطنهم، فيمارسوا واجباتهم، إذ هم يطالبون بحقوقهم المشروعة. كما نصلّي من أجل الذين هم في موقع المسؤولية، كي يفهموا أنّ السلطة هي خدمة، وأنهم وصلوا إلى موقع المسؤولية ليعملوا على إحقاق العدل والمساواة بين جميع المواطنين، فينصروا المظلوم ويساعدوا المعوز، ويعملوا بنزاهةٍ وجدّيةٍ على إحلال الأمن والسلام.

          ولا بدّ لنا من التوقّف عند أوضاع أبنائنا وبناتنا المسيحيين في العراق الذين لا تزال أيدي الإرهاب والغدر متربّصةً بهم، وتضمر لهم الشر والأذية. لا أحد ينكر أنّ جذور المسيحيين في بلاد ما بين النهرين تعود إلى آلاف السنين، متأصلة في نسيج الوطن الذي يفخر بتنوّعه. هم ليسوا إذن غرباء ولا مستورَدين، وقد عُرفوا بحبّهم لوطنهم وبعطاءاتهم المميّزة لرفع شأنه وازدهاره. ونقولها صراحةً وللأسف الشديد: لأنهم المكوّن الأكثر سلماً ومسالمة، ما زالوا، رُغم كل التطمينات والوعود، يُستضعَفون ويُنكَّل بهم بغيةَ النيل من عزيمتهم وتهجيرهم قسراً.

          إننا نحثّ أحبّاءنا أبناء حضارة ما بين النهرين وبناتها، وقد مرّوا وما زالوا في درب الآلام، على التمسّك بإيمانهم والتشبّث بأرضهم بروح الأخوّة والسلام وبالوعي لحاجتهم إلى التضامن والوحدة. ونذكّرهم ألا يخافوا، بل أن يثقوا بالرب فاديهم، الذي بقيامته المجيدة غلب العالم وخطيئة العالم. كما نبتهل رافعين الصلوات والأدعية إليه سبحانه وتعالى، كي يجمع قلوب جميع العراقيين، إلى أيّ دينٍ أو قوميةٍ أو لغةٍ انتموا، بروح الإلفة والتآخي، فتتشابك أيديهم بالأخوّة الصادقة، لتضميد جراح العراق والعمل على قيامته عزيزاً ومزدهراً.

          ونرى واجباً علينا أن ندعو المسؤولين في الدولة العراقية والمجتمع العربي والدولي، كما فعلنا سابقاً ومراراً، أن يبذلوا كلّ جهدٍ لهم لضمان حقوق المسيحيين أسوةً بسائر المواطنين، وطمأنتهم بالعمل الجادّ والصريح على تأمين الحماية التي يحتاجون إليها، فيثقوا بالمسؤولين ويبقوا متجذّرين في وطنهم.

          إننا نتألّم إذ نعاين لبناننا اليوم، تكاد الإنقسامات تتآكله، والخلافات المضمَرة تتعارك، بينما الخطاب السياسي المعلَن يزداد كلّ يومٍ تباعداً عن السلوكية المدنية التي بها تُبنى المجتمعات الحضارية. إلى الرب نضرع كي يهدي المسؤولين ليعوا واجبات خدمتهم بروح الشراكة والنزاهة، فيبقى لبنان وطناً حرّاً وسيّداً يتّسع لجميع أبنائه وبناته، دون تمييزٍ على أساس الدين أو المذهب أو الإنتماء السياسي أو الحزبي. فلبنان، عطية الله لنا، "هو أصغر من أن يُقسَّم وأكبر من أن يُبتلَع". وعلى جميع الذين يعتزّون بالإنتماء إليه، أن يقدّروا قيمته الحضارية بين شعوب المنطقة وفي العالم، بالرغم من محدودية إمكانياته، وحاجة نظامه إلى التطوّر، وزلات الذين يحكمونه. وليتنافس الجميع في الدفاع الجادّ عن هذا الوطن الذي نُحسَد عليه، متّحدين ومقتنعين بديمقراطية توافقية يضمنها الدستور والاتفاقيات المشتركة والمصدَّقة.   

          كما يطيب لنا أن نحيّي مباركين أبناءنا وبناتنا في أبرشياتنا ورعايانا في بلاد الإنتشار، ونشجّعهم على التمسّك بإيمان الآباء والأجداد، فيظلّوا متجذّرين بتراثهم المشرقي، محافظين على طقوس كنيستهم السريانية الأمّ، فخورين بانتمائهم إلى الكنيسة الأنطاكية العريقة. كما ندعوهم أن يخلصوا للأوطان الجديدة التي استقروا فيها، دون أن ينسوا واجب التضامن مع إخوةٍ وأخواتٍ لهم في الأوطان التي نشأوا فيها.

          أيها الأحباء، لنجدّد ثقتنا بالرب القائم من بين الأموات، الذي يمنحنا الغلبة. إنه يحيا معنا وفينا، إذ هو يرافقنا في دروب هذه الحياة الوعرة.

          حقاً لقد قام المسيح "وأقامنا معه"، فلنحيَ معه حياة البنوّة الإلهية.

 

ܡܫܝܚܳܐ ܩܳܡ ܡܶܢ ܒܶܝܬ ܡܺܝ̈ܬܐ܆ ܫܰܪܝܪܐܝܬ ܩܳܡ

مشيحو قوم من بيت ميثيه، شاريروإيث قوم 

 المسيح قام من بين الأموات، حقاً قام

 

 

صدر عن كرسينا البطريركي في بيروت، في اليوم العاشر من شهر نيسان

عام 2011، وهي السنة الثالثة لبطريركيتنا.

  

                                                    محبكم بقلب الرب الممجد

                                             اغناطيوس يوسف الثالث يونان

                                                  بطريرك السريان الأنطاكي

 

إضغط للطباعة