|
في تمام الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم السبت ١٣ كانون الأول ٢٠٢٥، احتفل غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، بالقداس الإلهي الحبري بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس رعية مار أفرام السرياني، وذلك على مذبح كنيسة مار أفرام - باريس، فرنسا.
عاون غبطتَه في القداس صاحبا السيادة: مار أفرام يوسف عبّا، والمطران بيتر كرم المدبّر الرسولي لأبرشية سيّدة لبنان المارونية في فرنسا، والمونسنيور حبيب مراد، والمونسنيور بيار النادر، بحضور ومشاركة صاحب السيادة الياس يغيان مطران أبرشية فرنسا للأرمن الكاثوليك، والخوراسقف أورهان شانلي، والمونسنيور هوغ دو وويلمون Hugues DE WOILLEMONT مدير عام منظَّمة Oeuvre d’Orient والنائب العام لشؤون الكاثوليك الشرقيين في فرنسا، ممثِّلاً صاحب السيادة لوران أولريك Laurent ULRICH رئيس أساقفة أبرشية باريس اللاتينية، والذي اعتذر لعدم تمكُّنه من الحضور بسبب التزامات راعوية مُسبَقة، والأب كريم كلش، والأب جان ماري هوموJean-Marie HUMEAU معاون النائب العام لشؤون الكاثوليك الشرقيين في فرنسا، وعدد من الآباء الخوارنة والكهنة من مختلف الكنائس في باريس. وخدم القداس شمامسة رعية مار أفرام في باريس وجوق الترانيم، مع عدد من الشمامسة من الإرساليات السريانية في مناطق مختلفة من فرنسا.
وشارك في القداس سعادة السفير اللبناني في فرنسا ربيع الشاعر، وعدد من الرسميين يمثّلون بلدية باريس، وجماهير غفيرة من المؤمنين من أبناء رعية مار أفرام في باريس، ومن إرساليات سريانية عدّة في فرنسا، ووفد من النيابة البطريركية في تركيا.
وفي موعظته بعد الإنجيل المقدس، بعنوان "لا تخف يا يوسف ابن داود"، استهلّ غبطة أبينا البطريرك كلامه "بالشكر الكبير لكاهن رعيتنا العزيز المونسنيور بيار النادر مع جميع معاونيه ومساعديه الذين حضّروا هذا اليوبيل المئوي لرعية مار أفرام. ويتوجّه شكرنا أيضاً إلى جميع الذين حضروا معنا، من أصحاب السيادة الأساقفة، والآباء الخوارنة والكهنة من الكنائس الشقيقة، وكذلك ممثّلي السلطات المدنية، ولا سيّما الأصدقاء في بلدية باريس الذين سيساعدوننا في ترميم كنيسة مار أفرام الجميلة هذه، علامةً لحضورنا الروحي والثقافي في باريس. فهذه الرعية هي الأقدم بين رعايا كنيستنا السريانية، ليس فقط في فرنسا، بل أيضاً بين كلّ الرعايا في كنيسة الإنتشار، لذلك نحن فخورون بها كثيراً، ونتّكل على العناية الإلهية كي تتمّ أعمال الترميم، فتتابع أداء الشهادة لروحاتيتنا وثقافتنا ولغتنا السريانية".
وأشار غبطته إلى أنّ "يوبيل المئوية في الكتاب المقدس هو مناسبة نعمة وامتنان تجاه الرب يسوع الذي يعتني بشعبه، وعرفان ووفاء لجميع الذين كانوا مخلصين للكنيسة على امتداد التاريخ. مئوية مار أفرام تذكّرنا أنّ الكنيسة السريانية الكاثوليكية الأنطاكية نالت الثقة فرنسا والشعب الفرنسي، وهي تشكرهم جزيل الشكر. فالإخوة الفرنسيون الكاثوليك كانوا منفتحين ومتعاطفين مع مسيحيي الشرق بعد ما حلّ بهم، خاصّةً إثر الحرب العالمية الأولى، لا سيّما من جراء الإبادة الأرمنية والسريانية والمسيحية بشكل عامّ، لذا نحن ممتنّون لهم جداً".
ونوّه غبطته بأنّ "بطريركنا السرياني الأنطاكي، المثلَّث الرحمات مار اغناطيوس أفرام الثاني رحماني، والذي كان باحثاً ومتعمّقاً في الآبائيات وفي الليتورجية، ليس فقط السريانية، بل الشرقية والغربية، بحث في المخطوطات واكتشف مخطوطات منسيّة، ونحن في دير سيّدة النجاة البطريركي - الشرفة، في لبنان، نحتفظ بمجموعة خاصّة للبطريرك رحماني، مئات المخطوطات التي استطاع أن يكتشفها خلال زياراته، سواء إلى الشرق أو إلى المتاحف ما وراء البحار. إنّنا ممتنّون جداً لهذا البطريرك الذي طلب من السلطات المدنية ومن الكنيسة الكاثوليكية في باريس أن يخصّصوا لنا هذه الكنيسة، كنيسة مار أفرام، فكان هو المؤسّس لهذه الرعية عام 1925، حتّى نستطيع أن نكون حاضرين مع إخوتنا المسيحيين الشرقيين الآخرين هنا في باريس".
ولفت غبطته "إلى ما قاله البابا بنديكتوس السادس عشر في تعليمه بتاريخ 28 تشرين الثاني عام 2007 عن المسيحيين الشرقيين الساميّين، والذين إليهم ننتمي نحن السريان، كلّ الكنائس ذات التقليد السرياني، السريانية الكاثوليكية والسريانية الأرثوذكسية والمارونية والكلدانية والآشورية، نحن الكنائس الساميّة بحقّ، إذ يقول: "بحسب الرأي السائد اليوم، المسيحية هي ديانة أوروبية الجذور، قامت بتصدير ثقافة هذه القارّة إلى بلدان أخرى. لكنّ الحقيقة هي أكثر تعقيداً من ذلك، لأنّ جذور الديانة المسيحية تكمن في العهد القديم، وهي بالتالي في القدس والعالم الساميّ". ونحن نتذكّر هنا القديس إيريناوس، شفيع مدينة ليون الفرنسية، على سبيل المثال، وهو شرقي، جاء وبشّر في ليون، وصار ثاني أسقف لها. فالمسيحية إذاً انتشرت من خلال تبشير الشرقيين، وهذه الحقيقة واضحة، إذ أنّ جذور ديانتنا المسيحية الموجودة في العهد القديم، في أورشليم وفي العالم الساميّ، وهي تُبرِز أنّنا نحن السريان ورثة هذا الإرث العظيم، نحمله ونحافظ عليه بكلّ فخر واعتزاز".
وأكّد غبطته على أنّ "القديس مار أفرام السرياني، شفيع هذه الكنيسة، كان من أفضل ممثّلي هذه الثقافة الساميّة التي تكلّم عنها البابا بنديكتوس السادس عشر في تعليمه. فقد سُمِّيَ أفرام "قيثارة الروح القدس"، شارحاً أسرار خلق العالم وتجسُّد الكلمة الإلهي وخلاص جنسنا البشري، بأسلوب شعري رائع جداً، وهو الذي ظلّ أميناً في ترنيم نصوص الكتاب المقدس، ما دفع أحد الآباء إلى القول بأنّه إذا فُقِدَت نصوص الكتاب المقدس، بإمكاننا إيجادها في كتابات مار أفرام وأشعاره وأعماله. بقي مار أفرام شمّاساً متواضعاً، وكان حقّاً أيقونة متعدّدة الأبعاد بأعماله وحياته، أيقونة غنيّة بصورها وشعرها وموسيقاها ولاهوتها الكتابي والتزامها بمحبّة أخوية باذلة في خدمة الأكثر ضعفاً، إذ أنّ مار أفرام توفّي من جراء إصابته بعدوى مرض الطاعون في الرها حيث نزح، بعد أن كان يداوي المصابين بهذا المرض".
وتناول غبطته المناسبة الطقسية: "بحسب طقس كنيستنا السريانية الأنطاكية، نُحيِي اليوم الأحد السابع ضمن الآحاد السابقة للميلاد، مستذكرين حلم أو الوحي إلى يوسف البارّ، كي يفهم ويقبل سرّ تجسُّد الكلمة الإلهي في أحشاء مريم خطيبته، وهو سرّ نحن مدعوون جميعنا إلى قبوله والإيمان به، وقد ذُكِرَ بوضوح تامّ في الكتاب المقدس، وهو سرّ خلاصنا بالرب يسوع، الإله المتأنّس من مريم العذراء".
وختم غبطته موعظته بالقول: "في هذا مساء الإحتفال بمئوية تأسيس رعية مار أفرام السرياني في باريس، نشكر الرب على كلّ نِعَمِه وعطاياه التي منحنا إيّاها طوال مئة عام، ونسأله أن يساعدنا كي نحافظ على رجائنا، ونفكّر بإخوتنا وأخواتنا في الشرق، والذين يقاسون الكثير من الآلام والمعاناة، ليس فقط الإضطهاد والظلم من الخارج، وإنّما أيضاً التحدّيات التي تواجهها الشبيبة، والتي توجب علينا التيقُّظ لها، لأنّ صمودنا واستمراريتنا مهدَّدان إن لم نبقَ متجذّرين في أرضنا الأمّ، لا سيّما في لبنان وسوريا والعراق والأراضي المقدسة، كي نستطيع متابعة شهادتنا للرب يسوع ولكنيسته المقدسة، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيّدة النجاة، ومار أفرام، وجميع القديسين والشهداء".
وكان المونسنيور بيار النادر قد ألقى كلمة رحّب فيها بغبطته قائلاً: "إنّ حضوركم بيننا يا صاحب الغبطة وترؤُّسكم هذا الإحتفال في هذا اليوم التاريخي هو نعمة خاصّة لرعيتنا، وعلامة على الأبوّة، والشركة الكنسية، والإستمرارية الحيّة بين الكنيسة الأمّ وأبنائها المنتشرين في جميع أنحاء العالم. باحتفالكم بهذه الذبيحة الإلهية، تختمون ببركتكم الرسولية قرناً من الإيمان والثبات. نرحّب بكم بكلّ احترام بنوي عميق وامتنان صادق، أدامكم الرب وحفظكم".
ورحّب أيضاً بالأساقفة والخوارنة والكهنة وبجميع الحاضرين، شاكراً المجلس الراعوي والشمامسة وأعضاء الجوقة واللجنة النسائية والمتطوّعين وأبناء الرعية وعائلاتهم والضيوف، لافتاً إلى أنّه "قبل مئة عام، وضع بعض المؤمنين، المنفيين بعيداً عن ضفاف نهرَي دجلة والفرات، حجر الأساس لهذه الرعية. لم يحملوا معهم إلا القليل، لكنّهم حملوا في قلوبهم كنزاً لا يُقدَّر بثمن: إيمان أسلافهم، وليتورجيا القديس يعقوب، ولغة ربنا يسوع المسيح نفسها، اللغة السريانية الآرامية. قصّتنا في هذا المكان لا تبدأ قبل مئة عام فحسب، بل تمتدّ جذورها إلى فجر العصر الرسولي. تحمل هذه الكنيسة اسم القديس أفرام، أحد آباء الكنيسة العظام في القرن الرابع، الذي ألهمت ترانيمه، المكتوبة بلغتنا السريانية الجميلة، العالم المسيحي بأسره. من خلال تسميتها بهذا الإسم، أراد المؤسِّسون أن يغرسوا هنا، في قلب باريس، فرعاً حيّاً من كنيسة أنطاكية العريقة، تلك التي حافظت، عبر تقلّبات التاريخ، على نقاء الإيمان وثراء تقاليدها السامية".
وأردف بالقول: "أنّ "قصّتنا هي قصّة صمود، كتبَتْها أجيال متعاقبة من المؤمنين، الذين فرّوا من المصاعب وبحثوا عن السلام. تحملها ذاكرة ماردين وحلب وبيروت والموصل وبغداد، وغيرها من المدن التي ازدهر فيها مجتمعنا. كلّ حجر في هذه الكنيسة يهمس بهذه الأسماء، بهذه الذكريات، بهذه الترانيم الليتورجية، عابراً القرون والقارّات. بعد مئة عام، ها نحن هنا، لا كناجين، بل كشهود أحياء وورثة فاعلين لهذه السلسلة الطويلة من الشهادة. هذه الرعية أكثر من مجرَّد مبنى حجري، إنّها ذاكرة حيّة ووعد للمستقبل. اليوم، نتذكّر بمشاعر الإمتنان جميع الرعاة الذين خدموا هذه الجماعة، نتذكّر باحترام ودعاء مَن رحلوا عنا، ونشكر الله على خدمة مَن يواصلون العمل، الأمس واليوم".
وختم قائلاً: "إنّ إخلاصنا ليس تراجُعاً، بل هو فعل محبّة. لقد حافظْنا على لغتنا السريانية في القداس، لا بدافع الحنين إلى الماضي، بل لأنّها الوسيلة المقدسة للقاء الله، والصلة المباشرة بكلمات الرسل وآباء الكنيسة، بمن فيهم شفيعنا القديس أفرام. حافظنا على ألحاننا وطقوسنا وتقاليدنا الزهدية، لأنّها تشكّل هويتنا الروحية، وتثري عالمية الكنيسة. في هذا اليوم المبارك، فلنتطلَّع بثقة إلى المستقبل. لعلَّ هذه الرعية، على أرض باريس، تبقى على الدوام مهداً يضيء فيه الروح القدس، ومدرسةً للصلاة يتردّد فيها صدى كلمات يسوع، وجسراً متيناً بين الشرق الذي أنجبَنا والغرب الذي يرحِّب بنا".
وقبل نهاية القداس، ألقى المونسنيور هوغ دو وويلمون كلمة باسم سيادة المطران لوران أولريك، أعرب فيها عن عميق سروره بوجوده في هذا الإحتفال الروحي بمناسبة مئوية تأسيس رعية مار أفرام السرياني في باريس، ناقلاً "مشاعر الإمتنان والتقدير من سيادة المطران أولريك والكنيسة اللاتينية في باريس إلى غبطة أبينا البطريرك لحضوره الشخصي وترؤُّسه هذه المناسبة، ممّا يشكّل علامة بركة وتشجيع وتعزية"، داعياً لغبطته "بالصحّة والعافية والعمر المديد لمتابعة رعايته للكنيسة في الشرق وبلاد الإنتشار رغم الصعوبات والتحدّيات".
وشكر "جميع الذين خدموا هذه الرعية حتّى وصولنا إلى هذا اليوم"، خاصّاً بالذكر "كاهنها ومعاونيه الفاعلين من العلمانيين الملتزمين وجميع أعضاء الرعية الذين يحافظون على الحضور السرياني في وسط الكنيسة في باريس، بغناها المتنوِّع من الشرقيين والغربيين"، مجدِّداً التهنئة بالذكرى المئوية على تأسيسها.
ثمّ ألقى سيادة الخوراسقف أورهان شانلي كلمة هنّأ فيها رعية مار أفرام في باريس بالذكرى المئوية على تأسيسها، معبّراً عن فرحه "بالمشاركة في هذا الإحتفال على رأس وفد قادم من النيابة البطريركية في تركيا"، مشيراً إلى أنّ "هذه المناسبة تدعونا للتأمّل بالحياة والشهادة والتجارب التي عاشها أعضاء هذه الرعية على مدى مئة عام، وبالصلوات المنقوشة على جدران هذه الكنيسة العريقة، واستلهام العِبَر، فهذه الكنيسة لديها الكثير لتخبرنا إيّاه، بأحجارها ورسوماتها".
وتابع قائلاً: "جئنا لزيارتكم من اسطنبول – تركيا، حيث أرض الآباء والأجداد، وسنعود حاملين جمال هذه المناسبة وبهاءها، مع التقدير لخدمتكم واستمراريتكم في الشهادة للرب يسوع رغم كلّ الظروف والتحدّيات"، مستذكراً "جميع الذين أسّسوا هذه الرعية، والذين ساهموا في الحفاظ عليها"، شاكراً "الذين يواصلون خدمتها بالتضحية والتفاني".
وختم كلمته بالتعبير عن "مشاعر المحبّة البنوية والإمتنان الخالص لغبطة أبينا البطريرك الذي يرعى الكنيسة والمؤمنين في كلّ مكان، بمحبّته الأبوية المعهودة وسهره الدائم"، متمنّياً له دوام الصحّة والتوفيق، ملتمساً بركته الرسولية، ومكرِّراً التهنئة بهذه المناسبة التاريخية المباركة.
وبعدما منح غبطته البركة الختامية، قدّم المونسنيور بيار النادر إلى غبطته ميدالية الذكرى المئوية، وكتاباً للأستاذ جوزف كحّالة عن تاريخ تأسيس رعية مار أفرام وماضيها وحاضرها، أُعِدَّ وطُبِعَ خصّيصاً بهذه المناسبة، عربون محبّة بنوية وشكر وامتنان وتقدير.
كما قدّم أيضاً ميدالية المئوية ونسخاً عن هذا الكتاب إلى كلٍّ من الأساقفة والكهنة الحاضرين.
بعدئذٍ خرج غبطته بموكب حبري مهيب، يتقدّمه الأساقفة والخوارنة والكهنة والشمامسة. ثمّ استقبل غبطته المؤمنين الذين تحلّقوا حوله ونالوا بركته الأبوية، في جوّ من الفرح الروحي.
|