غبطة أبينا البطريرك يشارك في لقاء رسمي لقداسة البابا لاون الرابع عشر مع السلطات وممثّلي المجتمع المدني والسلك الدبلوماسي في القصر الجمهوري اللبناني، بدعوة من فخامة الرئيس العماد جوزاف عون، بعبدا

    HB Patriarch YOUNAN attends the Meeting of HH Pope Leo XIV with the authorities, civil society and the diplomatic corps, by the invitation of the Lebanese President General Joseph AOUN, Beirut, Lebanon

    في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الأحد 30 تشرين الثاني 2025، شارك غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، في اللقاء الرسمي الذي عقده قداسة البابا لاون الرابع عشر مع السلطات وممثّلي المجتمع المدني والسلك الدبلوماسي، وذلك بدعوة من فخامة الرئيس العماد جوزاف عون رئيس الجمهورية اللبنانية، في القصر الجمهوري في بعبدا.

    كما شارك في هذا اللقاء الرسمي أصحاب القداسة والغبطة البطاركة: الكردينال مار بشارة بطرس الراعي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، ومار اغناطيوس أفرام الثاني بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، وابراهيم اسحق سدراك بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك، ويوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك، والكردينال مار لويس روفائيل ساكو بطريرك الكلدان في العراق والعالم، وروفائيل بيدروس الحادي والعشرون ميناسيان كاثوليكوس بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك، والكردينال بيير باتيستا بيتساباللا بطريرك القدس للاتين، ويوحنّا العاشر اليازجي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، وآرام الأول كيشيشيان كاثوليكوس كيليكيا للأرمن الأرثوذكس، ورؤساء الكنائس والطوائف الإسلامية في لبنان، ودولة الرئيس نبيه برّي رئيس مجلس النواب، ودولة الرئيس نوّاف سلام رئيس مجلس الوزراء، والوزراء والنواب الحاليون، وعدد من رؤساء الجمهورية والحكومة والوزراء والنواب السابقين، وأعضاء السلك الدبلوماسي، وفعاليات سياسية وقضائية وحزبية ومدنية وعسكرية، ونخبة من المدعوين، فضلاً عن الوفد المرافق لقداسة البابا من كرادلة وأساقفة وكهنة.

    وقد رافق غبطةَ أبينا البطريرك للمشاركة في هذا اللقاء الرسمي المونسنيور حبيب مراد كونه عضو اللجنة الكنسية المركزية لزيارة قداسة البابا.

    بدايةً، استُقبِل قداسة البابا استقبالاً رسمياً في القصر الجمهوري، والتقى فخامة رئيس الجمهورية وعائلته، ثمّ كلاً من دولة رئيس مجلس النواب وعائلته، ودولة رئيس مجلس الوزراء وعائلته، ليقوم قداسته بعدها بغرس شجرة زيتون علامةً للسلام.        

    ثمّ دوّن قداسته في السجلّ الذهبي للقصر الجمهوري عبارة بالإنكليزية، فيما يلي ترجمتها بالعربية:

    "في اليوم الأول من زيارتي إلى لبنان، إحدى الدولتين اللتين أزورهما في هذه الزيارة الرسولية الأولى لحبريتي، أتمنّى بكلّ سعادة جزيل البركات على شعب لبنان بأكمله، وأصلّي أن يسود السلام ربوعه".

    بعدئذٍ انتقل قداسة البابا وفخامة الرئيس إلى القاعة الكبرى حيث اجتمع المدعوون، فألقى فخامته كلمة رحّب خلالها بقداسته، مؤكّداً أنّ "لبنان ليس مجرَّد أرض تاريخية، بل موطن القديسين العظام، ومنهم القديس شربل الذي ستزورون مقامه المبارَك، وقد كرّمه الله بعطايا ومعجزات امتدّت لكلّ البشر، دون تمييز بين الأديان، مُظهِراً وحدة الشعب اللبناني وإيمانه العميق. هذا هو لبنان الذي يستقبلكم اليوم يا صاحب القداسة: لبنان الذي تكوّن بسبب الحرّية ومن أجلها، لا من أجل أيّ دين أو طائفة أو جماعة، وطن الحرّية لكلّ إنسان، والكرامة لكلّ إنسان، وطن فريد في نظامه، حيث يعيش مسيحيون ومسلمون، مختلِفين، لكن متساوين في نظامٍ دستوري قائم على التساوي بين المسيحيين والمسلمين، وبالانفتاح على كلّ إنسان وضمير حرّ. هذه فرادة لبنان في العالم كلّه، وهذه دعوته لكلّ الأرض".

    وتوجّه فخامته إلى قداسته قائلاً: "أهلاً وسهلاً بكم على الأرض المسيَّجة بالعذراء والمكرَّسة لإسمها من أقصى الجنوب حتّى أقصى الشمال. في الوسط سيّدة المنطرة قرب صيدا، حيث انتظرت العذراء ابنها يسوع، حتّى جعلْنا يوم بشارتها عيداً وطنياً لكلّ طوائف لبنان ولكلّ أدياننا الإبراهيمية، في ظاهرة لم يعرفها أيّ بلد آخر في العالم. بفرح عظيم، أرحّب بكم، رسول سلام في وطن السلام. بشرف عظيم، وباسم الشعب اللبناني بكلّ مكوّناته وطوائفه وانتماءاته، أرحّب بكم في هذا الوطن الصغير بمساحته، الكبير برسالته، لبنان الذي كان ولا يزال أرضاً تجمع بين الإيمان والحرّية، بين الإختلاف والوحدة، وبين الألم والرجاء. من هنا واجب الإنسانية الحيّة الحفاظ على لبنان، لأنّه إذا سقط هذا النموذجُ في الحياة الحرّة المتساوية بين أبناء ديانات مختلفة، فما من مكانٍ آخر على الأرض يصلحُ لها. فإذا زالَ المسيحيُّ في لبنان، سقطت معادلة الوطن، وسقطت عدالتُها. وإذا سقطَ المسلمُ في لبنان، اختلّت معادلة الوطن، واختلّ اعتدالها".

    وتابع فخامته: "إذا تعطّل لبنانُ أو تبدّل، سيكونُ البديلُ حتماً، خطوطَ تماسٍ في منطقتنا والعالم، بين شتّى أنواع التطرّف والعنف الفكري والمادّي، وحتّى الدموي. هذا ما أدركه الكرسي الرسولي دوماً، ولهذا رفع قداسة البابا بولس السادس صوته باكراً دفاعاً عن وحدة لبنان وسيادته. كما خلّد القديس يوحنّا بولس الثاني لبنان في ذاكرة العالم بقوله التاريخي "لبنان أكثر من بلد، إنّه رسالة في الحرّية والتعدّدية معاً، للشرق كما للغرب، قبل أن يكرّس سابقة كنسية استثنائية، بتخصيص سينودس عام، خاص للبنان. وهو من قال لدينا قبل 40 عاماً، بأنّ وجود المسيحية الحرّة في لبنان شرط لاستمرارها وازدهارها في كلّ منطقتنا. ونحن نجزم اليوم بأنّ بقاء هذا اللبنان، الحاضر كلّه الآن من حولكم، هو شرط لقيام السلام والأمل والمصالحة بين أبناء ابراهيم كافّة. وصولاً إلى قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، زائر المحبّة والحكمة، الذي أكّد من بيروت، أنّ مستقبل الشرق لا يمكن أن يُبنى إلا بالشراكة والتعدّدية والإحترام المتبادَل. وكانت خطوته بالغة الدلالة والرمزية، بأنّه لم يعلن الإرشاد الرسولي الخاصّ بالشرق الأوسط، إلا من لبنان. وها نحن نستقبلكم، يا صاحب القداسة، رابعَ خليفةٍ لبطرس يزور وطننا، في خطوة لا تقلّ بلاغةً في الرسالة والدلالة. إذ أردتم أن يكون لبنان أرض زيارتكم البابوية الأولى خارج روما، فجئتم إليه مباشرةً من نيقية، من أرض قانون الإيمان، في ذكراها الألف والسبعمئة، لتؤكّدوا مجدَّداً إيمانكم بنا، ولنجدِّد معاً إيماننا بالإنسان".

    وختم فخامته كلمته بالقول: "صاحب القداسة، أبلِغوا العالم عنّا، بأنّنا لن نموت ولن نرحل ولن نيأس ولن نستسلم، بل سنظلّ هنا، نستنشق الحرّية، ونخترع الفرح، ونحترف المحبّة، ونعشق الإبتكار، وننشد الحداثة، ونجترح كلّ يوم حياة أوفر. أبلِغوا العالم عنّا، بأنّنا باقون مساحة اللقاء الوحيدة، في كلّ منطقتنا، ونكاد نقول في العالم كلّه. حيث يمكن لهذا الجمع أن يلتقي حول خليفة بطرس، ممثّلين متّفقين لكلّ أبناء ابراهيم، بكلّ معتقداتهم ومقدَّساتهم ومشتركاتهم. فما يجمعه لبنان، لا يسعه أيّ مكان في الأرض. وما يوحّده لبنان، لا يفرّقه أحد. بهذه المعادلة يعيش لبنان في سلام مع منطقته، وفي سلام منطقته مع العالم".

    ثمّ ألقى قداسة البابا كلمة بدأها بالآية الشعار لزيارته الرسولية إلى لبنان: "طوبى لفاعلي السلام"، معرباً عن أنّه "لفرحٌ كبير لنا أن نلتقي بكم ونزور هذه الأرض حيث "السلام" هو أكثر من مجرَّد كلمة: السلام هنا هو شَوق وهو مصير، وهو عطيّة وورشة عمل مفتوحة دائماً. أنتم مكلَّفون بالسلطة في هذا البلد، كلٌّ في مجاله الخاصّ وبأدوار محدَّدة. ومن منطلق هذه السلطة، نودّ أن نوجّه إليكم كلام يسوع، الذي تمّ اختياره ليكون مصدر إلهام أساسيّ لهذه الزيارة: "طوبى لفاعلي السلام". بالتأكيد، هناك ملايين اللبنانيين، هنا وفي كلّ العالم، يخدمون السلام بصمت، يوماً بعد يوم. أمّا أنتم، الذين تحملون المسؤوليات المختلفة في مؤسّسات هذا البلد، فلَكُم تطويبة خاصّة إن استطعتم أن تُقدِّموا هدف السلام على كلّ شيء. نودّ، في لقائنا هذا، أن نفكِّر معكم قليلاً في معنى أن نكون فاعلي سلام في ظروف بالغة التعقيد، ومليئة بالصراعات والاضطراب".

    وأشار قداسته إلى أنّه "بالإضافة إلى جمال الطبيعة في لبنان وغناه الثقافي، اللذين أشاد بهما من قبل جميع أسلافنا الذين زاروا بلدكم، تتجلّى صفةٌ تُميِّز اللبنانيين: أنتم شعب لا يستسلم، بل يقف أمام الصعاب ويعرف دائماً أن يُولَد من جديد بشجاعة. صمودكم هو علامة مميَّزة لا يمكن الإستغناء عنها لفاعلي السلام الحقيقيين: في الواقع، عمل السلام هو بداية متجدِّدة ومستمرّة. الإلتزام من أجل السلام ومحبّة السلام لا يعرفان الخوف أمام الهزائم الظاهرة، ولا يسمحان للفشل بأن يثنيهما، بل طالِب السلام يعرف أن ينظر إلى البعيد، فيقبل ويعانق برجاء وأمل كلّ الواقع. يتطلّب بناء السلام مثابرة، وحماية الحياة ونموّها تتطلّب إصراراً وثباتاً. اسألوا تاريخكم، واسألوا أنفسكم من أين تأتي هذه الطاقة الهائلة التي لم تترك شعبكم قطّ يستسلم ويبقى مُلقًى على الأرض، بلا رجاء. أنتم بلد متنوّع، وجماعة مكوَّنةٌ من جماعات، لكنْ موحّد بلغة واحدة: لا أشير هنا فقط إلى اللغة العربية اللبنانية التي تتحدّثون بها، والتي نثرت، في ماضيكم النبيل، لآلئ لا تُقدَّر بثمن، بل أشير بصورة خاصّة إلى لغة الرجاء، اللغة التي سمحت لكم دائماً بأن تبدأوا من جديد. يبدو أنّ نوعاً من التشاؤم والشعور بالعجز قد ساد حولنا، في كلّ أنحاء العالم تقريباً، وصار الناس لا يقدرون حتّى أن يسألوا أنفسهم ما الذي يمكنهم أن يعملوه لتغيير مجرى التّاريخ".

    ونوّه قداسته بأنّه "تبدو القرارات الكبرى وكأنّها تُتَّخَذ من قِبَل قلّة من النّاس، وأحياناً على حساب الخير العام، ويَظهر ذلك كأنّه قدرٌ محتوم. أنتم عانَيتم الكثير من تداعيات اقتصادٍ قاتل، ومن عدم الاستقرار العالميّ الذي خلّف آثاراً مدمّرة في المشرق أيضاً، ومن التشدّد وتصادم الهويّات ومن النزاعات، لكنّكم أردتم وعرفتم دائماً أن تبدأوا من جديد. يمكن أن يفتخر لبنان بمجتمع مدني نابض بالحياة، غنيّ بالكفاءات، وبشباب قادرين على أن يعبّروا عن أحلام وآمال بلد بأكمله. نشجّعكم إذاً على ألا تنفصلوا أبداً عن شعبكم، وأن تضعوا أنفسكم في خدمة شعبكم، الغنيّ بتنوّعه، بالالتزام والتفاني. نرجو لكم أن تتكلّموا لغة واحدة: لغة الرجاء التي تجمع الجميع ليبدأوا دائماً من جديد. لَيتَ إرادة الحياة والنموّ معاً، شعباً واحداً، تجعل من كلّ جماعة صوتاً واحداً في سيمفونيّة متعدّدة الأصوات. ليساعدكم أيضاً رباط المودّة العميق الذي يشدّ اللبنانيين الكثيرين المنتشرين في العالم إلى وطنهم. إنّهُم يحبّون وطنهم الأصليّ، ويصلُّون من أجل الشعب الذي يشعر بأنّهم جزء منه، ويُعزّزونه بخبراتهم وكفاءاتهم المتعدّدة التي تجعلهم موضع تقدير في كلّ مكان".

    وشدّد قداسته على أنّ "الميزة الثانية لفاعلي السلام: فهُم لا يعرفون فقط البدء من جديد، بل يفعلون ذلك بصورة خاصّة بطريق المصالحة الشّاق. في الواقع، هناك جِراح شخصية وجماعية تتطلّب سنوات طويلة، وأحياناً أجيالاً كاملة، لكي تلتئم. إن لم تُعالَج، وإن لم نعمل على شفاء الذاكرة، وعلى التقارب بين من تعرّضوا للإساءة والظلم، فمن الصعب السير نحو السلام. سنُراوح حينئذ مكاننا، كلّ واحدٍ أسير آلامه ورؤيته للأمور. لا يمكننا أن نبلغ الحقيقة إلا باللقاء. كلّ واحدٍ منّا يرى جزءاً من الحقيقة، ويعرف جانباً منها، لكنّه لا يستطيع أن يستغني عمّا يعرفه أو يراه الآخر وحده. الحقيقة والمصالحة تنموان دائماً وفقط معاً: سواء في العائلة، أو بين الجماعات المختلفة والمكوّنات المتعدّدة في بلدٍ ما، أو بين البلدان المختلفة. في الوقت نفسه، لا توجد مصالحة دائمة بدون هدف مشترك، وبدون انفتاح على مستقبل يسود فيه الخير على الشرّ الذي عانى منه الناس أو فرضوه على غيرهم في الماضي أو الحاضر".

    واعتبر قداسته أنّه "لا تولد ثقافة المصالحة من القاعدة فقط، ومن استعداد البعض وشجاعتهم، بل تحتاج إلى السلطات والمؤسّسات التي تعترف بأنّ الخير العام هو فوق خير الأطراف. والخير العام هو أكثر من مجموع مصالح كثيرة: إنّه يقرّب أهداف الجميع بقدر المستطاع، ويدفع الجميع في اتّجاه واحد ليحقّقوا أكثر ممّا لو استمرّ كلّ فردٍ وحده. في الواقع، السلام هو أكثر بكثير من توازن، دائماً مهلهل، بين الذين يعيشون منفصلين تحت سقف واحد. السلام هو أن نعرف أن نعيش معاً، في وحدة وشركة، متصالحين بعضنا مع بعض. المصالحة، التي تسمح لنا بأن نعيش معاً، وتُعَلِّمنا أيضاً أن نعمل معاً، جنباً إلى جنب، من أجل مستقبل مشترك. إذّاك، يصير السلام تلك الوفرة التي ستدهشنا عندما يتّسع أفقنا إلى ما وراء كلّ حدٍّ وحاجز. أحياناً نفكّر في أنّه، قبل أن نتّخذ أيّة خطوة، يجب أن يتمّ توضيح كلّ شيء، وحلّ كلّ شيء، لكنّ المواجهة المتبادَلة، حتّى في حالة سوء الفهم، هي الطريق التي تؤدّي إلى المصالحة. الحقيقة الكبرى هي أنّنا نجد أنفسنا معاً منغرسين في مخطَّط أعدّه الله لكي نصير فيه عائلة".

    وتناول قداسته "ميزة ثالثة لفاعلي السلام. إنّهم يجرؤون على البقاء، حتّى عندما يكلّفهم ذلك بعض التضحية. هناك لحظات يكون فيها الهروب أسهل، أو ببساطة، يكون الذهاب إلى مكان آخر أفضل. يتطلّب البقاء أو العودة إلى الوطن شجاعةً وبصيرةً، باعتبار أنّ الظروف الصعبة هي أيضاً جديرة بالمحبّة والعطاء. نعلَم أنّ عدم الاستقرار، والعنف، والفقر، ومخاطر كثيرة أخرى هنا، كما في أماكن أخرى من العالم، تُسَبِّب نزيفاً في الشباب والعائلات الذين يبحثون عن مستقبل في مكان آخر، مع شعور عميق بالألم لمغادرة الوطن. بالتأكيد، يجب أن نعترف بأنّ أموراً إيجابية كثيرة تأتي إليكم من اللبنانيين المنتشرين في العالم. مع ذلك، يجب ألا ننسى أنّ البقاء في الوطن والمساهمة يوماً بعد يوم في تطوير حضارة المحبّة والسلام، هو أمرٌ يستحقّ التقدير. في الواقع، الكنيسة لا تهتمّ فقط بكرامة الذين ينتقلون إلى بلدان أخرى، بل تريد ألا يُجبَر أحد على المغادرة، وأن يتمكّن من العودة بأمان كلُّ الراغبين فيها".

    وذكّر قداسته بأنّ "التنقّل البشري هو فرصة هائلة للقاء والغِنى المتبادَل، لكنّه لا يُلغي الرابط الخاصّ الذي يربط كلّ واحد بأماكن معيّنة، والتي يَدينُ لها بهويّته بشكل فريد. والسلام ينمو دائماً في سياق حيّ وعمليّ، قوامه روابط جغرافية وتاريخية وروحية. علينا أن نشجّع الذين يعزّزون هذه الروابط ويتغذّون بها، دون أن يقعوا في النزعات المحلّية والقومية.إنّه تحدٍّ ليس فقط للبنان، بل لكلّ المشرق: ماذا يجب أن نفعل حتّى لا يشعر الشباب، بشكل خاصّ، بأنّهم مضطرّون إلى أن يتركوا أرضهم ويهاجروا؟ كيف نحثّهم على ألا يبحثوا عن السلام في مكان آخر، بل أن يجدوا الضمانات ويصيروا روّاداً له في موطنهم الأصليّ؟ المسيحيون والمسلمون، مع كلّ المكوِّنات الدينية والمدنية في المجتمع اللبناني، مدعوّون إلى أن يقوموا بدورهم في هذا الصدد، ويلتزموا بتوعية المجتمع الدّولي.

    وأكّد قداسته "على الدور الأساسيّ للنساء في التزامهنَّ الدؤوب والصابر للحفاظ على السلام وبنائه. لا ننسَ أنّ للنساء قدرة خاصّة على صنع السلام، لأنَّهُنَّ يُحسِنَّ حفظ الروابط العميقة وتطويرها بالحياة وبين الأشخاص ومع الأماكن. إنّ مشاركتهنَّ في الحياة الاجتماعية والسياسية، وكذلك في حياة جماعاتهنَّ الدينية، آخذين بالحسبان الطاقة الشبابية التي لديهنَّ، هي في العالم كلّه عنصر من عناصر التجدُّد الحقيقي. طوبى، إذاً، لفاعلات السلام، وطوبى للشباب الذين يبقون أو يعودون، لكي يبقى لبنان أرضاً نابضة بالحياة".

    واستلهم قداسته "صفة أخرى ثمينة من تقليدكم العريق. أنتم شعب يحبّ الموسيقى، التي تتحوّل في أيّام الإحتفال إلى رقص ولغة للفرح والتواصل. هذا الجانب من ثقافتكم يساعدنا لنفهم أنّ السلام ليس مجرَّد نتيجة جهد بشريّ، مهما كان ضرورياً، بل هو عطيّة من الله، تسكن أوّلاً قلوبنا. إنّه مثل حركة داخلية تتدفّق إلى الخارج، تؤهِّلنا لأن نهتدي بأنغام تفوقنا، هي نغم المحبّة الإلهية. من يرقص يتقدّم بخطواتٍ خفيفة، من دون أن يدوس الأرض، ويجعل انسجاماً بين خطواته وخطوات الآخرين. هكذا هو السلام: طريق يحرّكه الروح القدس، الذي يضع القلب في حالة إصغاء، ويزيد انتباهه واحترامه للآخرين. لَيت هذا الشوق إلى السلام ينمو بينكم، الشوق الذي ينبع من الله ويستطيع أن يغيِّر منذ اليوم طريقة نظركم إلى الآخرين، فتسكنوا معاً هذه الأرض، الأرض التي يحبّها الله حبّاً عميقاً ويستمرّ في مباركتها".

    وختم قداسته كلمته شاكراً "فخامة الرئيس، والسلطات، وجميع الذين عملوا على حفاوة الإستقبال التي استقبلتمونا به. كونوا على ثقة بأنّكم في صلاتي وصلوات كلّ الكنيسة من أجل خدمتكم السامية للخير العام".