يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النصّ الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، خلال رتبة السجدة للصليب ودفن المصلوب، والتي احتفل بها غبطته في كاتدرائية سيّدة البشارة، المتحف – بيروت، مساء يوم الجمعة العظيمة 18 نيسان 2025:
"كانت مريم واقفة إزاء الصليب"
أحبّاءنا المبارَكين بالرب يسوع
"كان مريم واقفة إزاء الصليب"، هذا ما سمعناه من الإنجيل المقدس بحسب يوحنّا، مريم التي حزنت وتألّمت وقَبِلَت رمحاً في قلبها، كما سبق وتنبّأ عنها سمعان الشيخ أنّه يجوز في نفسك سيف. كانت واقفة، بالطبع لا نستطيع أن نفسّر ولا نفهم الآلام التي كانت كامنة في نفسها، وهي الأمّ أمام وحيدها المصلوب.
هذه الجمعة، كما نسمّيها جميعنا، الجمعة العظيمة. عظيمة لأنّ في هذه الجمعة، هذا اليوم، تمَّ خلاصنا وفداؤنا في ذبيحة الفادي، وقد قَبِلَها بكلّ وعي واختيار لأنّه أحبّنا، وما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه من أجل أحبّائه.
سمعنا الأناشيد السريانية التي تنشدها كنيستنا منذ مئات السنين، وهذه الأناشيد البسيطة التي ترتكز على الكتاب المقدس، تساعدنا على التوغُّل والدخول في هذا السرّ العظيم الذي نحتفل به اليوم مع كلّ المسيحيين في العالم، أيَّ تقويم اعتمدوا، التقويم الشرقي أم الغربي، نحتفل هذا العام معاً بأسبوع الآلام الذي يتكلّل بيوم الجمعة العظيمة، ثمّ بعيد القيامة المجيدة.
وسمعنا من القراءات المقدسة، النبي زكريا يتنبّأ أنّه سيكون هناك حزن وألم ونوح لكلّ شعوب الأرض، لأنّ شخصاً غريباً سيُقتَل ظلماً. وسمعنا من المزمور يذكّرنا أنّه مهما كان، يجب أن نهلّل للرب ونهتف لصخرة خلاصنا.
هكذا، أحبّاءنا، ننهي أناشيدنا السريانية بعبارة "هللويا"، نهلّل للرب، ونقول أحياناً "قوريليسون"، أي يا رب ارحمنا، لكن حتّى في الجمعة العظيمة ننشد هللويا، ونهلّل للرب، ونحن ننشد في أحد الأناشيد: الخليقة بكيت على باريها، ولكنّ الكنيسة، البيعة، فرحت لأنّه بهذا الصليب خلّصها الرب يسوع.
سمعنا من مار بولس كيف اهتدى وأصبح رسول الأمم، وإلى اليوم نقرأ رسائله ونتعمّق بها ونعيش معانيها، هذا الشخص كان نوعاً ما متعصّباً بشكل خاص لديانته، لا يقبل أنّ المسيح يُصلَب، ولا يقبل حقيقة الفداء. لذلك كان يلاحق المؤمنين، حتّى أنّه ذهب من أورشليم إلى دمشق كي يشيَ بالمسيحيين ويحاسبهم.
على طريق دمشق، كما سمعنا من سفر أعمال الرسل، ظهر له يسوع وغيّره كلّياً من مضطهِد إلى مضطهَد، من شخص يفكّر بالقوّة وبأنّ الدفاع عن الله يتمّ عبر قتل الآخرين، أصبح رسولاً مضطهَداً ومتّكلاً على نعمة الرب يسوع الذي هو حيٌّ فيه.
بولس يقول: لستُ أنا أحيا، بل يسوع يحيا فيّ. في رسالته إلى أهل غلاطية، يعلن بولس بشكل واضح: نحن نبشّر بيسوع مصلوباً، مهما كان الناس يفكّرون بنا، خاصّةً في هذه الأيّام حيث تسود القوّة، والمكر والحِيَل التي تلجأ إلى القوّة كي يتمّ التنكيل بالضعفاء. فالعالم، للأسف، حتّى في البلاد التي كنّا نعتبر أنّها مسيحية، العالم فيها متّجه نحو تجاهُل حقيقة الفداء. المحبّة تتمّ ببذل الذات وليس بالقوّة والعنف، مهما كان كبيراً، وليس بالحكمة البشرية، إذ أنّ خلاص الإنسان وعلاقته مع الله هي علاقة محبّة، وهذه المحبّة بقيت تُبرهَن بالفداء.
في أسبوع الآلام، نأتي إلى الكنيسة كي نعيش هذه الحقيقة، حقيقة فدائنا التي تمّمها الرب يسوع. وتعرفون كيف جرت الأحداث، أنّ يسوع، بعدما أقام لعازر من الموت، استقبله الشعب بالتهاليل والأناشيد: مباركٌ الآتي باسم الرب. وإذا بهذا الشعب، يتمّ اللعب في عقله وتغيير فكره، فيطالب: أُصلُبه أُصلُبه. وهذا الأمر وللأسف نختبره أيضاً في حياتنا اليوم، حيث يتمّ اللعب في أفكار الكثيرين وتغييرها، إمّا عن جهل، أو عن مصلحة، وسوى ذلك.
قَبِلَ هذا الشعب طَلَبَ وحُكمَ رؤسائه الدينيين الذين كانوا يعادون يسوع في بشارته وحكموا عليه. وحسبما يخبرنا الإنجيل، لم يستطع بعض الناس الاعتراض على الحكم الذي حَكَمَ به على يسوعَ أعداؤُه، مع أنّهم سمعوا ورأوا أعجوبة إقامة لعازر من القبر، واستقبلوا يسوع بالتهاليل، ورأوا أعاجيبه وتعاليمه، وكانوا يقولون: إن جاء المسيح، هل سيستطيع أن يفعل هذه الأمور كما يفعلها يسوع؟ ومع ذلك لعبوا بهذا الشعب كي يطالب بصلب يسوع.
نتأمّل أيضاً بالشخص الذي حكم على يسوع بالصلب باسم القانون، لأنّ الرومان الوثنيين هم الذين كانوا يحكمون في ذلك الزمان في هذا الشرق. بيلاطس يعطينا صورةً عن السياسي المصلحيّ الذي يخاف أن يقول ويعمل بالحقيقة. وهذا الأمر ظاهر ومعروف اليوم أيضاً، وللأسف، في سياسة العالم وسياسة الحكّام الذين نسمع عنهم ونعرفهم.
كانت مريم واقفة إزاء الصليب، ومعها المريمات اللواتي كنَّ يتبَعْنَ يسوع، ويوحنّا الحبيب. كم هو مؤثِّر أن نسمع يسوع، وهو في أوج آلامه وعذاباته، يفكّر بأمّه، ويقول لها، إزاء يوحنّا الواقف بجانبها: هذا هو ابنكِ، ويقول ليوحنّا: هذه هي أمّكَ.
لا نستطيع أن نفهم هذا الأمر إلا إذا قَبِلْنا أنّ الرب يسوع المرتفع على الصليب ليس فقط إنساناً، بل هو إنسان وإله. مريم كانت واقفة، ممتلئة بالإيمان والرجاء بأنّ هذا العمل الذي تمّمه يسوع بإرادته هو خلاص البشر. لذلك كانت تتأمّل بصمت، ملتمسةً من ابنها الإلهي أن يقوّيها كي تقبل هذه المحنة والمعاناة الكبيرة.
نضرع إلى الرب يسوع، الذي وهو في أوج عذاباته غفر لصالبيه، أن يسامحنا لأنّه لا أحد منّا كامل. نسأله أن يقوّينا كي نظلّ أمناء له، ونبتهل إليه كي يرافقنا، لا سيما شبيبتنا وصغارنا، في هذه الظروف الأليمة التي نعيشها، حتّى نبقى دائماً شعب الرجاء الذي لا يخيِّب.
|