الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
رسالة عيد الميلاد 2012 لغبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان

 
 
   

    يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل لرسالة الميلاد المجيد لعام 2012 التي وجّهها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي الكلي الطوبى، وكانت البطريركية قد طبعتها في كرّاسٍ خاص يمكن الحصول عليه من الصرح البطريركي أو من رعايا الأبرشية البطريركية في لبنان أو  من أبرشيات سوريا والعراق:

نهديكم البركة الرسولية والنعمة والمحبة والسلام بمخلّصنا يسوع المسيح:

عمانوئيل... الله معنا

1.    مقدّمة: عمانوئيل: أعجوبة الحبّ الإلهي

    نحتفل كلّ عامٍ بعيد الميلاد المجيد، لنحيي سرّ الحبّ الإلهي في تأنُّس كلمة الله في أحشاء مريم البتول بقوة الروح القدس. لا نجرؤ حتى على تصوّره، ولكنّنا آمنّا به، لأنّ لا مستحيل لدى الله، ولأنّنا نؤمن بجدّية الوحي الذي كشف لنا أنّ الله بادر مراراً لعرض شركة حميمة مع الانسان. ولمّا حان الزمن، تكلّلت بادرته الحبّية  هذه بما جاء في الإنجيل المقدس: "ها إنّ العذراء تحمل فتلد ابناً يدعى اسمه عمانوئيل، أي الله معنا" (متى 1: 23).

    وفي تقليدنا السرياني الأنطاكي البديع، يتغنّى آباؤنا بعظمة الميلاد وسموّه عن كلّ إدراك. ولعلّ من أعذب الأناشيد الميلادية التي يوردها كتاب الصلوات الكنسية اليومية البسيطة "الإشحيم"، هذه الأنشودة:

    ܒܬܽܘܠܬܳܐ ܝܶܠܕܰܬ ܕܽܘܡܳܪܳܐ܆ ܬܰܘ ܢܺܐܙܰܠ ܢܶܬܒܰܩܶܐ ܒܶܗ܆ ܒܩܰܫܺܝܫ ܡܶܢ ܕܳܪ̈ܶܐ ܕܰܒܥܰܙܪܽܘܪ̈ܶܐ ܟܪܺܝܟ. ܣܳܒܳܐ ܥܰܬܺܝܩ ܝܰܘ̈ܡܳܬܳܐ ܕܺܝܠܶܕܬܶܗ ܒܬܽܘܠܬܳܐ܆ ܓܰܢ̱ܒܳܪܳܐ ܕܰܬܩܰܠ ܛܽܘܪ̈ܶܐ ܙܰܝܰܚܬܶܗ ܥܠܰܝܡܬܳܐ. ܗܰܘ ܕܝܳܗܶܒ ܠܰܚܡܳܐ ܠܟܰܦܢ̈ܶܐ ܝܺܢܶܩ ܚܰܠܒܳܐ ܐܰܝܟ ܫܰܒܪܳܐ. ܒܪܳܐ ܕܠܰܝܬ ܗ̱ܘܳܐ ܠܶܗ ܫܽܘܪܳܝܳܐ܆ ܨܒܳܐ ܘܰܗܘܳܐ ܠܶܗ ܫܽܘܪܳܝܳܐ܆ ܘܶܐܬܳܐ ܠܡܰܘܠܳܕܳܐ ܘܫܽܘܠܳܡܳܐ ܠܰܝܬ ܠܶܗ܀

    وترجمتها: "لقد ولدت البتول عجباً، هلمّوا نتأمّله، قديم الدهور الموضوع في قماطات. الشيخ القديم الأيّام ولدته العذراء، الجبّار الحامل الجبال زيّحته شابة، المعطي خبزاً للجياع رضع حليباً كالطفل. الابن الذي لا بداية له، شاء وصارت له بداية، وجاء مولوداً ولا نهاية له". (كتاب الإشحيم، القومة الأولى من ليل الأربعاء، صفحة 214ـ215).

2.    عمانوئيل: الخلاص

    كانت البشرية تنتظر هذا المولود العجيب، منذ نشأتها. وبعد أن سقط الإنسان الأوّل في وهدة المعصية، جاء وعد الله بأن يرسل إليه مخلّصاً، إذ إنّ "الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء بأنواع وطرق شتّى، كلّمنا الآن في ابنه الذي جعله وارثاً كل شيء" (عبرانيين 1: 1ـ2). وفي التعليم المسيحي: "إنّ الإنسان، وإن شوّهته الخطيئة والموت، يبقى على صورة الله، على صورة الابن، ولكنّه يعوزه مجد الله، ومثاله تعالى. إنّ الوعد الذي قطعه الله لابراهيم قد افتتح تدبير الخلاص، الذي في نهايته اتّخذ الابن "الصورة"، وأصلحها لتكون على شبه الآب واهباً لها من جديد المجد، والروح، معطي الحياة. وهكذا عاشت البشرية آلاف السنين، وهي تنتظر مجيء المخلّص الموعود" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 705).

    لقد وُلد المخلّص بالجسد في سكون الليل، في قرية صغيرة من فلسطين، هي بيت لحم. وجاء الملائكة يبشّرون رعاةً كانوا هناك، يسبّحون الله، ويقولون: "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر" (لوقا 2: 14). وكان الشعب المختار ينتظر في الواقع هذا المخلّص منذ زمنٍ بعيد، وكانوا يتمثّلونه محارباً سيتغلّب محقّقاً النصر على أعدائه بالحديد والنار، ويحرّر الشعب من محتلّيه. ولكنّه كان غير ما كانوا ينتظرون. وفي نظرنا، نحن المؤمنين بعظمة الحبّ الإلهي، فإنّ شوق الشعب المختار إلى المسيح المخلّص، هو توق الإنسانية جمعاء للكشف عن سرّ علاقة اللامتناهي بالخليقة التي أبدعها.   

3.    عمانوئيل: الفرح والرجاء والسلام

    "لأنه قد وُلد لنا ولدٌ، أُعطي لنا ابنٌ، فصارت الرئاسة على كتفه، ودُعي اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً جبّاراً، أبا الأبد، رئيس السلام" (أشعيا 9: 5).أجل، إنّ عيد الميلاد هو ينبوع فرحٍ، ومَعين رجاءٍ، ووعدٌ بالسلام.

    وهذا ما بشّر به الملاك إبّان ميلاد يسوع الإله ـ الكلمة المتأنّس، للرعاة، الذين كانوا يحرسون قطعانهم، ويسهرون عليها في هجعات الليل: "لا تخافوا، فها أنا أبشّركم بفرحٍ عظيمٍ يكون للشعب كلّه" (لوقا 2: 10). هذا الفرح لا يشعر به إلاّ أنقياء القلوب الذين لا يضمرون حقداً وضغينةً لأحدٍ من الناس، ولا يتوخّون من دنياهم إلاّ العمل بإرادة الله، مردّدين ما علّمنا السيد المسيح أن نقول في الصلاة الربّانية: "لتكن مشيئتك على الأرض، كما في السماء" (متى 6: 10).

    عيد الميلاد دعوةٌ لتجديد فعل الرجاء بغلبة الحق والخير والعدل. فمولود بيت لحم، القويّ بضعفه والمتسربل الضعف ليحرّر إنسانيتنا من ضعفها وخطيئتها، هو الضابط الكلّ، ما يُرى وما لا يُرى، القادر أن يُشركنا في غلبته على الشرّ والألم، مهما ادلهمّت الغيوم وتلبّدت في سماء حياة المؤمنين. لذا نسمع القديس بولس يقول: "أمينٌ هو الله، فلن يسمح أن تُجرَّبوا بما يفوق طاقتكم، بل يجعل مع التجربة مخرجاً، لتستطيعوا أن تحتملوا"  (1 قورنثوس 10: 13).

    وبغلبتنا مع الرب، ننشر الخير حولنا، ونحوز على السلام الحقيقي لنا وبيننا ولمن يطلب منّا جواباً عن إيماننا بأعجوبة المحبّة الإلهية، لأنّ يسوع، الإله المخلّص، هو وحده مَن صالحَنا مع الله. هكذا نرى حضور الربّ في الأشخاص الطيّبين، في كلّ الذين يضحّون بحياتهم من أجل إخوتهم، من أجل بناء عالمٍ يسوده العدل والمحبّة، توقاً إلى السلام الحقيقي.

4.    عمانوئيل: التواضع والعظمة

    لقد أراد الرب يسوع أن يُظهر في يوم مولده تواضعه وعظمته في وقتٍ معاً. فوُلد في مغارة، ولُفَّ بأقمطة كالأطفال، اتّقاءً للبرد القارص في تلك الآيام في بيت لحم. ووُضع في مذود حقير، وشعر بما نشعر به من عوامل الطبيعة، وهو سيّد الكون، وما فيه من كائنات. ولكن في الوقت عينه، ظهرت فجأةً من السماء جوقةٌ من الملائكة تسبّح الله، بالنشيد. فمنذ الدقيقة الأولى لوجوده بيننا، شاء كلمة الله أن يعطينا أمثولةً في التواضع، والزهد بمقتنى الدنيا، وغناها.

    كتب لنا البابا بنديكتوس السادس عشر في مؤلَّفه "يسوع الناصري": "عندما وُلد الطفل يسوع في ما بيننا، فلا يجدنّنا ذاهلين أو متشاغلين بتزيين بيوتنا بالأضواء. فلنُعدَّ بالأحرى في أذهاننا وعائلاتنا مسكناً لائقاً يشعر فيه بأنه مقبولٌ عندنا بإيمانٍ ومحبة... لم يرد يسوع أن ينقل إلينا معارف مجرّدة لا تتعلّق بنا، ولا تذهب إلى أعماقنا، فهو يريد أوّلاً أن يقودنا إلى سرّ الله، صوب النور... ولكي يسمح لنا بأن نصل إلى هذا النور، فهو يُظهر لنا شفافية النور الإلهي في شؤون هذا العالم، وفي وقائع يتألّف منها كل يوم من أيامنا... يُظهر لنا من نحن، وما علينا أن نفعل. وهو ينقل إلينا معرفةً... تُغيِّر حياتنا: إنّ الله هو في الطريق إليك. ولكنّها معرفة تتطلّب أمراً لا بدّ منه: كن مؤمناً، ودع الإيمان يقودك" (يسوع الناصري، للبابا بنديكتوس السادس عشر، صفحة 216ـ217).

    وفي كتاب "الإشحيم" أيضاً أنشودةٌ تؤكّد أنّ ميلاد الكلمة المتأنّس، وهو قمّة التواضع والعظمة، تمّت فيه نبوءة أشعيا:

    ܐ̱ܡܰܪ ܠܰܢ ܐܶܫܰܥܝܳܐ܆ ܘܒܰܕܶܩ ܠܰܢ ܐܳܘ ܒܰܪ ܐܰܡܽܘܨ ܕܡܳܢܰܘ ܒܰܛܢܳܗ̇ ܕܰܒܬܽܘܠܬܳܐ܆ ܐܺܝܬܰܘܗ̱ܝ ܐܰܠܳܗܳܐ܆ ܕܰܒܚܽܘܒܶܗ ܗܘܳܐ ܒܰܪܢܳܫܳܐ܆ ܘܥܰܡܰܢܽܘܐܶܝܠ ܐܺܝܬܰܘܗ̱ܝ ܫܡܶܗ܆ ܗܰܠܠܘܝܰܗ ܕܺܐܝܬܰܘܗ̱ܝ ܥܰܡܰܢ ܐܰܠܳܗܰܢ ܝܶܫܽܘܥ ܦܳܪܽܘܩܶܗ ܕܥܳܠܡܳܐ܀

    وترجمتها: "أخبرنا يا أشعيا، وبيّن لنا يا ابن آموص ما هو سرّ حبل البتول: إنّه الإله الذي بمحبّته صار إنساناً، واسمه عمانوئيل، هللويا إنّه إلهنا معنا، يسوع مخلّص العالم" (كتاب الإشحيم، القول الأوّل من صباح الجمعة، صفحة 383).

5.    عمانوئيل: الأمانة والوحدة والعزاء

    في هذه السنة، المعلنة سنة الإيمان، احتفلت الكنيسة الجامعة بذكرى مرور خمسين عاماً على انعقاد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، كما انعقد سينودس الأساقفة العام حول موضوع "الكرازة الجديدة، لنقل بشرى الخلاص" للمجتمعات التي لم تسمع عن كُنه الميلاد، ولتلك التي شوّهت بشراه الخلاصية بجرم المادّية التي سرقت براءة الطفولة. لذا تحثّنا أمّنا الكنيسة على عيش الأمانة لدعوتنا وإيماننا المسيحيين، متنعّمين بحضور الله في حياتنا الفردية والجماعية. فنحيا رسالة الميلاد بالوحدة والتعاضد على مثال الكنيسة الأولى: "وكان جماعة الذين آمنوا قلباً واحداً ونفساً واحدة" (أعمال 4: 32). كما نسعى جاهدين لنقل الإيمان ونشره في مجتمعاتنا المتعطّشة لسماع بشرى الانجيل بروح المحبّة والأخوّة، عاملين بوصية الرب يسوع: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" (متى 28: 19ـ20). وهكذا يشعّ حضور الله في حياتنا، فيبقى معنا "كلّ الأيام وحتى انقضاء الدهر" (متى 28: 20).

    أيها الإخوة والأخوات والأبناء والبنات الأعزّاء،

    إنّ النبوءة التي فاه بها أشعيا النبي معزّياً آحاز ملك يهوذا، بقوله: "فلذلك يؤتيكم السيد نفسه آيةً: ها إنّ العذراء تحمل فتلد ابناً يسمّونه عمانوئيل... يرذل الشر ويختار الخير" (أشعيا 7: 14ـ15)، يوجّهها الرب الإله إلى كلّ شخصٍ منّا في هذه الأيّام المقدسة، أيام الميلاد المجيد. يؤلمنا أن نشهد شرائح عدّة من مجتمعاتنا تتخبّط خبط عشواء في الليلة الظلماء، حتى كاد الوهن ينال من إيمان الكثيرين، بسبب مرض اللامبالاة الدينية وتفشّي الإلحاد، لا بل معاداة بشرى الإنجيل التي تسعى الكنيسة أن تقدّمها لمن يجهلها وهو متعطّشٌ إليها. لذا وجب علينا أن نستلهم من روحانية الميلاد نعمةً وحكمةً وتنوُّراً، كي نتفهّم المتغيّرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في عالمنا اليوم، فنكون رسلاً حقيقيين لبشرى الخلاص التي انطلقت من مذود بيت لحم.

6.    صدى العيد في شرقنا والعالم اليوم

    كما في سنواتٍ قليلةٍ مضت، يشوب بهجة عيد الميلاد في عامنا هذا مزيجٌ من حزنٍ وأسى، سيّما ونحن نعاين ما تعانيه دولٌ عدّة في بلادنا المشرقية من اضطراباتٍ عنيفة، بل من حروبٍ تستنزف مقدّرات شعوبها وتجعل مستقبل أبنائها وبناتها في مهبّ الريح.

    إنّنا، ومن موقعنا كرعاةٍ روحيين مؤتمَنين على كرامة الإنسان الذي يختار بحريته نوعية العلاقة الشخصية مع ربّه، نكرز ببشارة الميلاد الخلاصية، ونؤكّد أنّ الكنيسة لا تتلوّن بنظامٍ سياسي، ولا تدعم هذا أو ذاك من الفرقاء المتنازعين في أيّ بلد، فهي تدين الكراهية والعنف والإقصاء. لذا نذكّر بأنّ الديمقراطية الحقيقية التي تتوق إليها شعوب منطقتنا، لا تُختصر بحكم أكثرية عددية دينية قد تمارس التسلّط تجاه أقليات تختلف عنها فكرياً أو دينياً أو عرقياً. إنها تأبى الاستئثار بالعمل السياسي كعقيدة مطلقة، وتوجب تعلُّم احترام الآخر، وإن كان مخالفاً في الرأي والاتّجاه، وهي تسعى جاهدةً إلى نشر الطمأنينة والاحترام والسلام بين المواطنين. وجميعنا نقرّ بأنّ أخطر النتائج لاستبداد الأكثرية وإقصائها الآخرين، هي الهجرة التي تدفع بالمضطهَدين إلى الانسلاخ عن أرض آبائهم وأجدادهم، هائمين في بلادٍ غريبة، من أجل عيشٍ حرٍّ وكريم.

    من هذا المنطلق، نناشد الدول أن ترعى جميع مواطنيها بالعدالة والمساواة، والمؤسسات الرسمية والاجتماعية أن تتحمّل مسؤولياتها، فتُلزم المنضوين تحت لوائها باحترام الآخر مهما كان دينه وثقافته وتقليده، وهذا يقتضي، بادئ ذي بدء، تطبيق مبدأ "فصل الدين عن الدولة"، والإقرار بدستور مدني حضاري. نسأل الله متضرّعين إليه، وهو ملك السلام، أن ينشر بشرى الأمان والسلام والرجاء في كل الربوع والأوطان، إنه السميع المجيب.

    إنّ أفكارنا وقلوبنا ومشاعرنا تتّجه خاصةً إلىسوريا الجريحة، التي تعاني منذ أكثر من عشرين شهراً، محنةً صعبة، بل فتنةً مخيفة بحجّة تغيير النظام ونشر الديمقراطية. إنّ الصراع الأهلي العنيف، الذي ينشر الفوضى وابتزاز الأبرياء في أكثر من منطقة، يؤول إلى العبث بمقوّمات سوريا ومقدّراتها، ويكاد يفتّتها ويفتك بها، إذ يعاني المواطنون والمواطنات ظروفاً قاسيةً جداً، في ظلّ مآسٍ تدمي القلوب وتتفطّر من جرائها الأكباد. وها هم الكثيرون من أبناء الوطن وبناته يغادرون ديارهم، منهم من ينزحون إلى مكانٍ آخر، وآخرون يهجرون البلاد بحثاً عن بلدٍ أكثر أمناً يأوون إليه وهم ينشدون الراحة والطمأنينة.

    إننا، لا يسعنا إلاّ أن نرافق بالصلاة والدعاء أبناءنا وبناتنا في جميع أبرشيات كرسينا السرياني الأنطاكي في سوريا، من دمشق إلى حمص وحلب فالجزيرة، متضامنين معهم في هذه المحنة العصيبة، وقد حُرموا من بهجة العيد ليحلّ مكانها الحزن والكآبة. نصلي من أجلهم ومن أجل جميع إخوتهم المواطنين الآخرين، إلى أيّ طائفةٍ أو مذهبٍ انتموا، ونهيب بجميع الأطراف المتنازعين، أن يتصرّفوا بضميرٍ وطني واعٍ لا يتأثّر بأيّ ضغطٍ أو إملاء من أيّ جهةٍ أتى، فيحكّموا جميعاً لغة الحوار والتفاهم والمصالحة، لتعلو على لغة السلاح والعنف الذي لن يولّد سوى المزيد من الدمار والدماء. فحرامٌ عليهم ما يفعلون بأنفسهم وبوطنهم، وهم للأسف لا يدرون الآن ماذا يفعلون! ويا ليتهم يكتشفون ثقافة العيش المشترك ليعيدوا بناء ما تهدّم، فترجع سوريا إلى سابق عهدها من الازدهار والتقدّم.

    نترحّم على شهداء سوريا، مستمطرين التعزيات السماوية للقلوب الثكلى المفجوعة بفقد عزيز، سائلين الله أن يلهم الجميع لما فيه خير هذا البلد الطيّب وشعبه الأبيّ.

    ولا يفوتنا أن نحيّي أيضاً العراق العزيز، بجميع مواطنيه، هذا البلد الذي لا يزال يعاني محنةً طال أمدها، ونحثّ كل فئات الوطن على شبك الأيدي والسعي الدؤوب إلى تحقيق خير الجميع بالتعاضد والتآلف. كما نتوجّه بشكلٍ خاص إلى أبنائنا وبناتنا، مؤكّدين لهم أنّ التضحيات التي قدّمها شهداؤنا وجرحانا لن تمرّ عبثاً، بل لا بدّ وأن تثمر خيراً ونعماً لهذا البلد الحبيب، مشجّعين إياهم على الاستمرار في ممارسة حقوقهم وواجباتهم خلال مسيرتهم الوطنية، في العيش الفاعل والمتفاعل، جنباً إلى جنب مع شركائهم في الوطن الواحد، ليعود العراق إلى رونقه ووحدة مواطنيه.

    إننا نهنّئ دولة فلسطينبنيلها صفة عضو مراقب في منظّمة الأمم المتّحدة، ونحن نتطلّع إلى اليوم الذي فيه تنال هذه الدولة سيادتها على أراضيها كاملةً دون انتقاص. ونعايد أبناءنا وبناتنا هناك، ونصلّي من أجل ثباتهم ورسوخهم في تلك الديار المقدسة.

    كما نعايد أبناءنا وبناتنا فيالأردن، سائلين لهذا البلد دوام الخير والتطوّر.

    أما مصر، فيما نهنّئ أبناء كنيستنا هناك بعيد الميلاد المجيد، نتوجّه بالتهاني الحارة إلى قداسة أخينا الأنبا تاوضروس الثاني، بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بمناسبة تولّيه منصبه الجديد، داعين لقداسته ولكنيسته الشقيقة بكلّ خير وتقدّم، ولمصر بالسلام والوحدة بين مختلف فئات الوطن، لما فيه رقّي البلاد وازدهارها.

    كما نعايد أبناءنا وبناتنا في تركيا، متمنّين لهم النجاح الدائم، وشاكرينهم لكلّ ما يقومون به للمحافظة على الوجود التاريخي لكنيستنا وشعبنا السرياني في تركيا.

    أما لبنان الغالي، "الكنز الثمين"، على ما وصفه قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر خلال الزيارة التاريخية التي خصّه بها في أيلول الماضي، فها هو يمرّ بمرحلة خطيرة من تاريخه، يعيش فيها أبناؤه في حالة انقسام كبير، وسط عواصف تحيط بالوطن من هنا وهناك وهنالك، ممّا يوجب رصّ الصفوف، ونبذ الخلافات، وتوحيد الرأي، لجمع كلّ اللبنانيين على هدفٍ واحد هو إعادة الطمأنينة إلى النفوس، ونشر السلام والمحبة والألفة في الربوع، لإنقاذ الاقتصاد من هزالته، واستعادة جميع الطاقات التي هجرت لبنان. وكل هذا لا يتحقّق إلا بالترفّع عن الذات، وبتضافر الجهود، فتمتدّ الأيدي إلى المصافحة الأخوية، وإلى العمل معاً بثقةٍ وإخلاص، لترميم ما تهدّم في النفوس، قبل ترميم ما تهدّم في البناء والمؤسّسات.

    ومتى صَفَت النيّات والقلوب، قُطعت الطريق أمام أهل الأحقاد والفتن، وزارعي الشقاق والدمار والموت. عندها يستعيد اللبنانيون ثقتهم بذاتهم وببلدهم، ويمدّون أيديهم إلى بعضهم، متعاونين لما فيه خيرهم المشترك ومستقبل أجيالهم الطالعة.

    ولا بدّ لنا، كما في كلّ مرة، أن نجدّد ولاءنا التامّ لوطننا لبنان، فنحن السريان كنّا ولا نزال وسنبقى من بناة هذا الوطن، وسنخلص له على الدوام، مهما طالنا من جور في التمثيل وظلم في ممارسة الشأن العام.

    ويطيب لنا أن نتقدّم بالتهاني والمعايدة إلى أبنائنا وبناتنا في بلاد الانتشار، في أوروبا وأميركا وأستراليا، وقد تفقّدنا العديدين منهم في بحر هذا العام، ونحن نسعى جاهدين لتوفير الخدمة الروحية اللازمة لهم من خلال رعاتهم المباشرين، الأساقفة والكهنة. إننا نمتدح إيمانهم وتعلّقهم بكنيستهم الأمّ وبلاد نشأتهم، ونحثّهم على متابعة التواصل الدائم مع الكنيسة والوطن في الشرق، كي يؤسّسوا عائلاتهم ويربّوا أولادهم على مبادئ الآباء والأجداد وتقاليدهم، محافظين على وديعة الإيمان والتراث السرياني الأصيل وناقلينها إلى الأجيال اللاحقة، فيستمرّوا بعيش الشهادة الواحدة لإيماننا وتراث كنيستنا، بخاصة مع تزايد أعداد المهاجرين من أبنائنا في بلاد الاغتراب بشكلٍ مطّرد.

7.    خاتمة: عمانوئيل: دعوة إلى السلام

    أيها الأحباء،

    في هذه الأيام الميلادية المقدّسة، ونحن نعيش بشرى الرجاء والأمل بالسلام والأمان، نتوجّه بصلاتنا الحارّة إلى ربنا ومخلّصنا يسوع المسيح، الذي ارتضى بنعمته واتّخذ له جسداً فسكن بيننا، أن يؤهّلنا لنفتح قلوبنا ونهيّئها، فتضحي مغارةً يحلّ فيها سكناه ويضرم فيها هواه وسلواه، فنحيا به وله ومعه على الدوام، عاملين بقول القديس أوغسطينوس: "لن يرتاح قلبي حتى يستقرّ فيك". ونسأله خاصةً أن يستعملنا لسلامه، عملاً بتوجيهات الإرشاد الرسولي الذي وجّهه قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى المؤمنين من كنائس الشرق "الكنيسة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة"، فنلتزم ما جاء فيه إذ يقول: "السلام هو حالة الإنسان الذي يعيش بتناغمٍ مع الله ومع ذاته ومع كلّ الناس والطبيعة. السلام هو في الداخل قبل أن يكون في الخارج. إنّه نعمة. إنّه توقٌ إلى واقع أفضل في الحياة الإنسانية" (الفقرة 9).

    وفيما نهنّئكم ونعايدكم جميعاً بعيد الميلاد المجيد، وبحلول العام الجديد 2013، نضرع إلى الرب الإله أن يجعل أيّامكم كلّها فرحاً وسروراً، وأن يكون العام الجديد عاماً مباركاً يحمل الخير والبركة لجميع شعوب الأرض، وبخاصة المتألّمين والمستضعَفين والمهمَّشين، وأن ينشر أمنه وسلامه في بلادنا المشرقية وفي العالم بأسره. ولتشملكم جميعاً بركة الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، والنعمة معكم. آمين.

    نختم بالتهنئة الميلادية:

       ܡܫܺܝܚܳܐ ܐܶܬܺܝܠܶܕ ... ܗܰܠܠܘܝܰܗ                              وُلد المسيح ... هللويا

 

صدر عن كرسينا البطريركي في بيروت ـ لبنان

في اليوم الخامس من شهر كانون الأول عام 2012،

وهي السنة الرابعة لبطريركيتنا

 

 

إضغط للطباعة